اخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / التسوية التاريخية

التسوية التاريخية

– إياكم وخضراء الدمن.

قالوا: وما خضراء الدمن يارسول الله؟

قال: المرأة الحسناء في منبت السوء.

هل كانت حركة 17 تشرين الأول كشفاً للانهيار الاقتصادي أم نتيجة له؟ سؤالٌ اختلف في جوابه كثيرون، فيما ينبغي للسياسة ألّا تنصرف إلى البحث عمن سبق: البيضةُ أم الدجاجة، فكلتاهما ترتبطان وجوداً وعدماً بجدلية واحدة.

كمنت المعاناة الشعبية وتفاعلت طويلًا في الأعماق، حتى انفجرت في وجه سوقية الأداء وأُمِّيَّة المتسلطين، وشغورِ ضمائرهم من الشعور بالمسؤولية. وهذا عبر عنه سليم سعادة بأسلوبٍ فكاهيٍّ نفَّاذ، بيَّنَ فيه أن الدولة والبرلمان والحكومات والمصارف معًا أجمعين، نصبوا للمواطنين فخ الاقتصاد الريعي بمداخيله الرَّخيَّة، فجفَّفت البنوكُ السوقَ من السيولة مغريةً الناس بفوائد مرتفعة، فكفُّوا عن الإنتاج والاستثمار، وتكدست الأموال في الحسابات المجمدة مع عبئها الربوي الثقيل على الاقتصاد؛ علماً أن البنوك، كما يقول العلمُ، تخلق النقود بتكرار ترويجها في الاستثمار. لكنَّ مصارفَنا رَحَّلَتْها إلى المكان المركزي الخطر، حيث استسهلَت السلطة تناولها لقاء عوائد دفترية كبيرة موَّهَت بها المصارف ميزانياتها “الناجحة”، علماً ان الحصافة المصرفية لا تجيز ارتهان معظم الودائع لدى زبون واحد سيئ السمعة المالية ، على ما يقول الرئيس السنيورة . هكذا توهَّمَ المودعون أنّهم أمِنوا غوائلَ الحياة وقد أتخمت حساباتهم أرباحًا كانت سهولتها مدعاة قلق لدى أطراف تلك الدورة الجهنمية. لكنها الأنفسُ الأمَّارةُ بالثروة، التي وثقَت بمواردَ للدولة ما عتم أن ظهرت شحيحةً حتى الاضمحلال، فأفاق الناس على فاقتهم الجديدة وقد هبطوا فيها فجأةً دون المرور بمرحلة انتقالية توطِّئُ لهم التعايش المؤلم مع آثار الإفلاس.

وكنت أشرت في مقالات سابقة، إلى أن الفساد المستشري في مفاصل الدولة وتفاصيلها كان متدرج الظهور منذ نشأته، وإن استخفى أحيانًا بسبب وقوع لبنان على ممر مالي بقي نهره متدفقًا رغم المعارك والحروب الداخلية، بل ربَّما لأجلها. فلما تحول المجرى انكشف الفساد بصورة فاضحة، تحت وطأة الصراعات الإقليمية والدولية، وانحسار الاهتمام العربي بنا وتراوحِه بين الإهمال والاختصام، وخروج المشاريع الجغرافية الجديدة على كامل الإقليم من خرائطها إلى سطح الأرض، وإلى سراديبها لتسهيل مرور الفلسطينيين في “دولتهم” كأنهم قبائل من الزواحف ، لا كائنات بشرية تشكل استمراراً لشعب يعيش قسم كبير من العالم على مائدة حضارته الدينية.

من هنا، ليس مفيدًا أن نهدر الوقت والفرص في البحث عن المسؤول عما وصلنا إليه في الإدارة والاقتصاد: إن كان رفيق الحريري في قبره، كما يحلو للبعض أن يقول، أم هذا العهد القوي، أم الثقل المسلح لحزب الله الذي أفقد الدولة مرونتها وقدرتها على التكيف بين الأزمات، وحركتها في محيطها المترجح بين الائتلاف والاختلاف والرضا والغضب.

وأعلمُ أنَّ الوقت لا يؤذن حتى الآن بنضج حلول عملية عميقة لبنية الدولة رغم ضرورة السعي الحثيث دائمًا إلى ذلك. لكنَّ أفكارًا ودعواتٍ تظهر وتحاول تقديم طروحات، منها الجديد، ومنها ما ينفض عنه غبار البيات على الرفوف. وليست مقالة سجعان قزي الخميس الماضي (ما كانت الفيديرالية خيار المسيحيين) إلا من هذا القبيل، حصىً يتواتر إلقاؤه في البحيرة السياسية اللبنانية، ويشكل دوائرَها المتوالدةَ على اتِّساعِ مائها. لقد أخرج فيها نقاشاتنا من مَسَرَّة الهاتف إلى علنية النص المكتوب، فتلقيت حول الإشكالية التي طرحها تعليقاتٍ لا تحصى، عددتُها إيجابية جدًّا رغم تباينها، لأن ابقاء على الدولة، بغض النظر عن أشكالها المتراوحة بين المركزية واللامركزية والفدرالية، يحتاج إلى بلورة طروحات قابلة للتنفيذ، بريئة من الدوغمائية، قائمة على وحدة المصالح التي كانت أساس حركة الشعب اللبناني وعنوانَ انتشارها في الجغرافيا والديموغرافيا، قبل أن يدسوا عليها أهلَ “العنف الثوري”، الذين “أنجزوا ” انحسارًا في المد الشعبي، وأورثوا النفوس خوفًا من الفوضى التي يزعمونها خلاقة، وهي في حقيقتها مميتة .

وكي لا أنسب الى نفسي ما لست مؤهلاً له، فأنا لا أدعي القدرة على كتابة نص تسوية تاريخية لا بد منها، بل سأكتفي بإيراد ملاحظات وتساؤلات قد تكون هي الأخرى حَصًى في البحيرةِ تنبثق منها دوائرُ نقاش وطني عام يلامس فيه المفكرون والمتناقشون مصالح الناس البسيطة التي لم يؤمن لها التعصب الديني كهرباء، ولا الطموحات الأممية حقوقًا، ولم تسترد لها الخطب القومية أرضًا، ولم يحفظ الانكماش أمانًا، ولم تصن الفوضى الاقتصادية مالاً.

أولًا: إن انتهاج سياسة “المرجئه” (إحدى الفِرَق يوم الفتنة الكبرى في الإسلام) هو إرجاء الى ما بعد الكفن. فانتظار أن تحسم الخيارات السياسية المعضلتين الاقتصادية والاجتماعية المترابطتين بشكل وثيق، يمكن أن يؤدي بلبنان إلى التدهور من حضيض إلى أحط، من غير أن يأتي هذا الحل أبداً. فالآن الآن وليس غدًا يقتضي ابتكار دواء لكلتا المعضلتين بالتزامن والتوازي.

ثانيًا: إن البحث عن الخلاص الانفرادي لطائفة من الطوائف أو “لشعب من الشعوب” كما يقول سركيس نعوم هو كمحاولة إنبات الشجر الأخضر من السعير .

ثالثاً: إذا كان الدافع إلى الفيديرالية التملص والتنصل من ثقل سلاح حزب الله فقد فات الداعين إليها أنه تنصل مستحيل بحكم وهج السلاح الذي يخرق الجوار ووقع قعقعته على الآذان وفي النفوس. وإذا اقتضت الفيديرالية تسليح المقاطعات بذريعة التوازن، أفلا يكون هذا تمهيداً لنزاعات مسلحة لا تنتهي؟

رابعًا: إن الفيديرالية تعني توحيد الإدارة في الأمور المركزية المتفق عليها، كالسياسة الخارجية والمالية والدفاع، على أن يبقى للسلطات المحلية إدارة الشؤون الداخلية والخاصة. أما في لبنان فالوضع معكوس: “شعوبنا” لا تختلف حول أنماط العيش، ولها، إذا اختلفت، قوانينُها الخاصة المطبَّقَة. اختلافها حقيقةً هو حول الخارج بالتحديد، لكونِنا “شعوبًا” متمحورة بين دعاوى الممانعة والمطاوعة والنأي بالنفس والزج بالنفس وأوهام النصر والهيمنة. فهل تنفعُنا الفيديراليةُ إذًا؟

خامسًا: لقد بلونا الفيديرالية في الحرب الأهلية إلى درجة الانقسام الحاد والالتحاق بـ”الحلفاء” الداخليين والخارجيين وتبادلت “جيوشنا” هجمات بعضٍ على بعض، وكان ذلك من غير طائل. وهذا ما يفسر انتقال بشير الجميل من “الكنتنة” داخل المجتمع المسيحي إلى طموح الهيمنة على 10452 كلم2 أي مساحة الوطن كله.

سادسًا: إن تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي كان ثمرة موقف لبناني موحد ونضال مسلح قامت به المقاومة الوطنية ثم انعقد لواؤه لحزب الله منفردًا، فأبلى البلاء الحسن. وهذا يطرح إشكالية لا بد من حلها، حول جواز أن تبقى الدولة مكتومة القيد، ومعلقة في فضاء الصراعات. إنني أرى أن هذا هو أوان المكاشفة الحقيقية بين حزب الله وبقية القوى لابتكار قاسم مشترك تاريخي، فحواه أن الدولة اللبنانية التي يتحكم فيها الحزب عن بعد، مليئة ببصماته الظاهرة، وأن التورية لم تعد مجدية، وأن الفساد فيها يعود إلى خلل بنيويٍّ يستشري في قطاعات السلطة كلها، وينخر كالسوس عظام الدستور والقوانين والقضاء العاجز عن الصمود. وعليه، كي نستعيد دولتنا، تُلْزِمُنا الواقعية الوطنية بتحييد سلاح الحزب نهائيًّا عن التأثير الداخلي، مع الاحتفاظ به كقوة احتياطية، آخذين في الاعتبار أن المعادلة الدقيقة التي يقوم عليها لبنان لا تؤهله إطلاقًا لأن يكون خزانًا لمصلحة الصراعات المسلحة في الإقليم، أو منبراً للتشاتم حول إيران والخليج، هذا لن ينصر فريفًا على آخر، بل يجعل الوطن آيلًا الى التداعي والسقوط تحت وطأة الخطب النارية.

سابعًا: أتمنى ألا تتحول الحكومة الحالية إلى حطب في محرقة، فهي ذات قوام حسن، مليئة بالحسناوات، فإياها ومنابت السوء، لئلا تصبح كخضراء الدمن.

أما بعد فقد استعرت عنوان المقال مما طرحه زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي “الموسوكوفي” الهوى، عن الطريقة الإيطالية في الوصول إلى الاشتراكية، وعن سعيه الى “التسوية التاريخية” مع الحزب الديموقراطي المسيحي من خارج التجاذب بين الإلحاد والإيمان، مع قبوله ببقاء إيطاليا في حلف “الناتو”. لم يكن رفيق الفيلسوف أنطونيو غرامشي يستلهم في طرحه هذا حرفية الماركسية اللينية، بل كان يبحث، كما سيفعل خَلفَهُ من بعده، أنريكو برلنغوير، عن تسويات بين مكونات المجتمع تقوم على المشاركة في السلطة، لا على احتكارها. من هنا رأيت في مقالة سجعان قزي الأخيرة طرف خيط يصلح لأن ننشئ من أجله أنوالاً توزَّع على امتداد اللبنانيين ليحوكوا بها تسوية تاريخية قائمة على قاعدة الحفاظ على الدولة، لأن بقاءها كما أسلفت حاجة فردية لكل مواطن، وإطار قانوني واقتصادي ينظم المجتمع ويحضن تطوره.

■ وزير ونقيب محامي طرابلس سابقاً.

77 تعليقات

  1. تعقيبات: 3usefully

  2. تعقيبات: dissertation help free

  3. تعقيبات: dissertation help online free

  4. تعقيبات: language editing phd thesis

  5. تعقيبات: dissertation printing

  6. تعقيبات: best dissertation writing service

  7. تعقيبات: dissertation completion pathway

  8. تعقيبات: masters dissertation help

  9. تعقيبات: dissertation chapters

  10. تعقيبات: buy dissertations online

  11. تعقيبات: phd dissertation help proposal

  12. تعقيبات: tips on writing a dissertation

  13. تعقيبات: empire casino online

  14. تعقيبات: cabaret club online casino

  15. تعقيبات: borgata online casino app

  16. تعقيبات: new online casino with free signup bonus real money usa

  17. تعقيبات: best online casino slots

  18. تعقيبات: new vegas online casino

  19. تعقيبات: betting casino online

  20. تعقيبات: no deposit online casino bonus codes

  21. تعقيبات: casino online real money no deposit

  22. تعقيبات: legit casino online

  23. تعقيبات: online casino game

  24. تعقيبات: how to start an online casino

  25. تعقيبات: tropicana casino online

  26. تعقيبات: betrivers casino online

  27. تعقيبات: avast vpn

  28. تعقيبات: best vpn services 2016

  29. تعقيبات: best vpn router 2022

  30. تعقيبات: best free vpn for chromebook

  31. تعقيبات: good vpn free

  32. تعقيبات: best vpn service 2019

  33. تعقيبات: gay bisexual senior dating

  34. تعقيبات: meet site

  35. تعقيبات: online single sites

  36. تعقيبات: meet singles for free

  37. تعقيبات: top dating online sites

  38. تعقيبات: online dating no info

  39. تعقيبات: skip the game dating site free search

  40. تعقيبات: pof dating

  41. تعقيبات: my dating sites

  42. تعقيبات: plenty of fish dating site of free dating

  43. تعقيبات: best online casino sign up bonus

  44. تعقيبات: free gay/bi-sex chat sites

  45. تعقيبات: gay chat by zip code

  46. تعقيبات: sex chat room gay

  47. تعقيبات: free gay/bi chat

  48. تعقيبات: first gay chat

  49. تعقيبات: chat with gay stranger

  50. تعقيبات: chat gay de jovenes buscando maduros

  51. تعقيبات: free gay phone chat

  52. تعقيبات: gay depression chat

  53. تعقيبات: gay chat nebraska

  54. تعقيبات: pay for a paper

  55. تعقيبات: write my english paper for me

  56. تعقيبات: buying college papers online

  57. تعقيبات: pay to write a paper

  58. تعقيبات: college paper writing service

  59. تعقيبات: do my college paper for me

  60. تعقيبات: paper writers online

  61. تعقيبات: paper writing service reviews

  62. تعقيبات: paper writing help online

  63. تعقيبات: best paper writers

  64. تعقيبات: some to write my paper

  65. تعقيبات: buying paper

  66. تعقيبات: 2assists

  67. تعقيبات: design and technology gcse coursework

  68. تعقيبات: database coursework

  69. تعقيبات: coursework writer uk

  70. تعقيبات: buy coursework

  71. تعقيبات: do my coursework

  72. تعقيبات: coursework info

  73. تعقيبات: coursework psychology

  74. تعقيبات: meet me now dating site

  75. تعقيبات: free chat

  76. تعقيبات: pof dating app

  77. تعقيبات: match single

اضف رد