نقولا ناصيف
النهار – الأرشيف
17042018
نستعيد في #نهار_من_الأرشيف مقالاً كتبه نقولا ناصيف في “النهار” بتاريخ 24 أيلول 1998، حمل عنوان “الترشيح والرئاسة في بيت كميل شمعون”.
الرئاسة في بيت كميل شمعون هي الرئاسة لكميل شمعون وحده. الى حدّ المغالاة في العبارة: الرئيس الدائم. فهو رئيس عندما يكون في سدة الرئاسة، والرئيس الظل بعدما يُغادرها. ورئيس المسيحيين عندما كان سواه في رئاسة الجمهورية الرئيس المسيحي. ثم قبل ذلك “فتى العروبة الأغر” الذي صار رئيساً عام 1952 بفضل تأييد النواب المسلمين له، اذ فاضلوا بينه وبين حميد فرنجيه ذي الوجه المسيحي الذي وُصِف بالمتعصّب. لكنه لم يكن كذلك. ترشيح دوري شمعون لرئاسة الجمهورية أمس ليس ابن هذا التقليد، لأن ابن الرئيس هو غير الرئيس. تماماً كترشيح داني شمعون للرئاسة في 5 آذار 1988، وكان الأب الرئيس قد غاب (7 آب 1987). لم يكن ترشح داني صورة محدثة عن ترشّح الأب قبل 36 عاماً. ولا كان بالتأكيد كالترشّح الاول لكميل شمعون، قبل ساعات من انتخاب بشارة الخوري (21 أيلول 1943)، اذ رؤي فيه حلاً وسطاً بين ترشيحي اميل اده وبشارة الخوري. مذذاك دان أول تقليد في الانتخابات الرئاسية اللبنانية لكميل شمعون بالعبارة التي درجت من بعده لسنين طويلة: “نام رئيساً…”. في تلك السنة نام رئيساً لليلة. عندما ترشّح داني، كانت السابقة في البيت الشمعوني برنامجه الرئاسي، لا يُرشِّحْه بالذات الذي كان مهّد له قبل أيام. أما السبب، فبسيط ومقتضب: لا تُرشِّحْ كميل شمعون للرئاسة (منذ ترك المنصب) الا هيبته. بل لا يُرشّحه الا اسمه لصيق ماضيه وحاضره من غير أن يقترن ببرنامج. بل لم يقترن اسم كميل شمعون مرة ببرنامج رئاسي أو سياسي سوى ما جمعه ببرنامج “الجبهة الاشتراكية الوطنية” نحو سنة ونصف سنة، وهي الخارجة لتوّها من الانتخابات النيابية عام 1951 في مواجهة عهد بشارة الخوري. حتى في عزّ سني عهده (1952 – 1958) كان يحكم باسمه ككميل شمعون لا ببرنامجه، وخارج الحكم كان يعارض ويستقطب باسمه لا ببرنامج حكم بديل أو مناوىء. ومن بعد ذلك في “الحلف الثلاثي” مع بيار الجميّل وريمون اده كان يتعايش معهما باعجوبة سبيلاً الى اسقاط حكم فؤاد شهاب في الانتخابات النيابية عام 1968، ثم منع وصوله الى الرئاسة مجدداً في انتخابات 1970. وبعد ذلك أيضاً في “الجبهة اللبنانية” التي ترأسها، حكم بالسلطة الدستورية لسليمان فرنجيه (عندما كان لا يزال رئيساً) وبأسلحة حزب بيار الجميّل في بداية الحرب. بعد بضعة أشهر على انتخابه (23 أيلول 1952) اختلف مع “الجبهة الاشتراكية الوطنية” التي رشّحته للرئاسة، ومع رفيقه فيها كمال جنبلاط اذ اتهمه الاخير بالخروج على برنامجها والاستقلال بالحكم والتفرّد بالسلطة. هو “الخصم النبيل” بحسب عبارة كمال جنبلاط، وهو بعد سنين طويلة “الخصم اللذيذ” بحسب وريثه وليد جنبلاط. فيشتركان معاً في حكومة رشيد كرامي عام 1984. على هامش مشاورات تأليف هذه الحكومة، طُلب الى الرئيس شمعون توزير داني بديل منه مع وليد جنبلاط ونبيه بري في مرحلة ما بعد الغاء “اتفاق 17 أيار”، فكان ردّ فعله: “هلق وقت توزير ولاد…”. لم يكبر الأولاد الا متأخرين، بعد رحيل الأب. تماماً كابني مجيد أرسلان، وابن صبري حمادة، وابن جوزف سكاف، وابن كمال جنبلاط، وابن صائب سلام. وكان ابنا بيار الجميّل وحدهما الاستثناء. الرجل مقيم في الحكم دائماً. فاما يترأس، أو يُرشّح الرئيس، فيصير في ظله الرئيس. ذلك ما فعله كميل شمعون تكراراً من غير أن يقول ببرنامج: قبل شهرين من انتهاء ولايته اختار وزيره المفضّل سليم نسيب لحود مرشحاً لخلافته فلم يقبل به الأميركيون. وفي 13 آب 1970، قبل أربعة أيام من الانتخابات الرئاسية ترشّح، الا أن الحسابات الدقيقة لجوزف سكاف حملته و”الحلف الثلاثي” الى مركب مرشح آخر قوي في مواجهة الياس سركيس هو سليمان فرنجيه. وذلك ما فعله في 17 أيلول 1982 بعد اغتيال بشير الجميّل بترشّحه، ثم انسحابه لمصلحة أمين الجميّل. وذلك ما عزم عليه قبل أكثر من سنة على تلك الانتخابات بابداء رغبته في الترشّح في 8 تشرين الثاني 1981 من دون أن يردعه كثيراً عائق السن. ثم كاد يصير في اجتماع ضمّه وبيار الجميّل وصائب سلام وتقي الدين الصلح في 17 آب 1982 سعياً منهم الى مرشح اجماع وطني، رئيساً بناء على اقتراح الزعيمين السنيين البيروتيين في مقابل تراجع بشير الجميّل عن ترشّحه. فأُفسِد المسعى. ثم هو الرئيس الظل في عهد سليمان فرنجيه، وخصوصاً في أولى سني الحرب (1975 – 1976)، يسكن موقتاً في بعبدا. ومن قبل هو الرئيس الظل في عهد فؤاد شهاب الذي لم يتردّد في محاصرته واسقاطه في الانتخابات النيابية عام 1964، لكن الرجل لا يقع. يذكر الشهابيون القدامى أنهم كانوا يطلبون من التلفزيون الرسمي في القداديس التي يحضرها فؤاد شهاب توجيه الكاميرا عليه لتصويره في مقدم الصفوف هو يرسم شارة الصليب بغية اجتذاب المسيحيين الى رئيسهم غير المحبوب. فاذا بها تتوجّه الى كميل شمعون في الصف الخلفي. الى الرئيس الفعلي للمسيحيين. ثم قلّما عبر استحقاق رئاسي لم تكن له فيه بصماته: لم يصر ترشيح الياس سركيس جدياً عام 1976، الا بعدما أيّدته “الجبهة اللبنانية” بزعامة كميل شمعون، مع ان سوريا كانت أيّدته قبلها. ولم يكتسب ترشيح بشير الجميل شبه الاجماع المسيحي الا بعد تلاوة كميل شمعون بنفسه بيان تأييد “الجبهة اللبنانية” لهذا الترشّح. ترشيح دوري، كما من قبله شقيقه الراحل داني، يُعوّل على برنامج في استحقاقات رئاسية لبنانية نادراً ما استرعت انتباهها البرامج. بل في الواقع لم يصل رئيس الى حكم البلاد حاملاً برنامجاً، أو الأقل أوصله برنامجه الى الرئاسة. ولا خرج تالياً من الحكم رئيس نفذ بعض ما قاله في برنامجه الرئاسي. وفي آخر الأمر لم يخرج رئيس مرة من حكمه راضياً بما حكم. ثم ان امتحانات أكثر منها برامج هي التي تُدير استحقاقات الرئاسة اللبنانية وان بنسب متفاوتة. في انتخابات 1970 كان البرنامج يعني تقدّم المرشح بامتحان أمام كمال جنبلاط، يطرح عليه أسئلة شفوية ليسمع منه أجوبة دقيقة ومقنعة وملتزمة. بعد ذلك أضحى الامتحان ولا يزال في دمشق. أما قبل هذا وذاك فلم تكن ثمة برامج، وانما امتحانات: شكري القوتلي زكّى التجديد لبشارة الخوري عام 1948، وأديب الشيكشلي زكّى انتخاب كميل شمعون عام 1952، وجمال عبد الناصر زكّى انتخاب فؤاد شهاب عام 1958. حتى بعد ترك فؤاد شهاب الرئاسة لم يتردّد على أبواب انتخابات 1970 في ايفاد أحمد الحاج وسامي الخطيب لاستمزاج جمال عبد الناصر رأيه في ترشيح الياس سركيس. فاذا بهما يعودان بعبارة: “معلوماتنا أن الياس سركيس ما بيمشيش…”. كذلك هي حال الياس سركيس عام 1976 عندما جمع زهير محسن في منزله في 31 كانون الثاني للمرة الاولى حاكم مصرف لبنان بوفد سوري رفيع من عبدالحليم خدام ومحمد الخولي وناجي جميل للتعرّف الى المرشح الشهابي المزمن عبر امتحان عابر. وفي كل الأحوال لم تكن تلك التزكيات وليدة البرامج، بل الأسماء. ومعظمها أسماء مهيبة. وكان المزكّون أسماء مهيبة بدورها. لكن الاستحقاق لم يكن مهيباً أبداً، ولا هو الآن كذلك.