
محمد مهدي الجواهري
عندما رأينا الشاعر محمد مهدي الجواهري في تلك البقعة من السماء، أدركنا حجم التبدل الذي طرأ على شخصيته، يوم كان موجوداً على الأرض. فقد ظهر التبدل على جسمه بسبب زيادة في الوزن. أما شكل الوجه البشوش وتقاسيمه، فكانت تميل إلى ان الشاعر عاد إلى الوراء سنوات وسنوات. وجه فارقته النظارات الطبية فقط، وباتت مساحته محررة مما كان محجوباً في الماضي. كان الشاعر محمد مهدي الجواهري بشورت متعدد الألوان. وبقميص أحمر مكتوب عليه: “هنا مركز الزلزال”. كأن ذلك الشاعر المشاكس لا يزال في مراهقة دائمة. رأيناه يمسك بالمضرب، ويمارس اللعب بكرة الريشة مع مجموعة من الفتيات اللائي كنّ منشغلات بصدّ كرات الشاعر الملتهبة الثقيلة قرب شطّ يقع على مقربة من طاوية عظيمة من المرمر الأبيض كانت تنعكس عليه موجاتٌ لازوردية تنبعث منها موسيقى لم نستمع إلى مثيل لها من قبل. شعرنا في البدء، بأن الاقتراب أكثر فأكثر من اللاعب المتمرس الهائم بزلازل تلك الصدور المنسوجة من الينابيع، ربما يربك المشهد. لكن الجواهري بدهائه ومكره، ألقى بالمضرب أرضاً وتقدم نحونا، فيما كنا نقوم بتصويره لقطات زوم. صافحنا وجلست إلى الطاولة مبتسماً، وهو يقول: كما ترونني الآن، أريد أن اطلع الفرق وألعب رياضة، طالما حُرمت منها على وجه تلك الأرض هناك.
– لا تُسمِّ الشعر رياضةً. فهو ليس غير تمارين في الجحيم.
* أي الأرضين صاغت الجواهري شاعراً عملاقاً بهذا القدر من القصيد، أهي أرض النجف أم تربة الشعر؟
– أرض النجف. ليس من شكّ في ذلك. فهي التربة الأولى التي تشبعتُ من نسوغها النحو والصرف والبلاغة والفقه، إلى جانب التداخل الروحي مع أبي الطيب المتنبي و”البيان والتبيين” و”مقدمة ابن خلدون” ودواوين الشعراء العرب، ممن بلغوا الجبال بقاماتها، وصار بعضهم من القمم.
* فقط؟ !
– ليس هذا كله كما يمكن القول. فقد كنت منذ بدايات ما بعد الطفولة، أتلمس الحياة تلمس المتيّم بحديقة غناء من الكلمات. لذلك قدرتُ إلى حد ما أن أجعل بنيان جسدي موازياً للبنيان الشعري الذي كنت أنصتُ إلى جداوله وإلى أهواله مبكراً. فالنجف لم تمنحني الفرصة الوافرة لرضاعة الشعر وحسب، بل دفعتني إلى الكثير من التجارب غير المتعلقة بالجانب الأدبي. هناك كانت الطواحين والصراعات المولّدة لمختلف الإرهاصات التي عادةً ما تقود إلى الجانب الشعري في نهاية المطاف.
* وربما بسبب الضجر المبدئي من طقوس الثقافة الدينية التي ألبسوكَ إياها في تلك المدينة المقدسة الشريفة؟
– ليس في هذا الاستنتاج من جهد قيّم يدل على الواقع. فأنا والنجف، كلانا كنا نتطلع للخروج من عنق الزجاجة إلى الفضاءات الأوسع. فالعمامة التي وجدتها موضوعةً يوماً على رأسي، كانت تُشعرني كما الكابوس بالضيق والانحسار. كذلك تلك المدينة، كانت دائمة المحاولات للخروج عن سراديب الحبس والقراءات المُكبّلة والتوسع في الاجتهاد طولا وعرضاً.
* لكنك سرعان ما استبدلتها بعمامة أخفّ. فما الفرق؟
– العمامة الأولى كانت رمزاً دينياً، فيما الحطة أو الكوفية المشغولة بالكلمات والرسوم الزخرفية التي استقرت على الرأس ردحاً من الزمن لا تغتني إلا بالبعد الجمالي .
* كأن لا بد من مظلة أو من خوذة لحماية رأس الشاعر، خشية تساقط أحجار الدهر عليه. أليس كذلك؟
– هذا كلام دقيق. فرأس الشاعر حتى وهو في أعلى درجات الهدوء والصمت والتأمل، يثير في الآخرين فزعاً ما. ليس عندي من شعر دون نار أو مشاكسة أو قلق. لقد بُنيت حياتي كلها على تلك الأسس. فعلى أرض الشعر خضتُ حروباً لا تزال تدمي القلب. مع ذلك خرجت منتصراً، بعدما صنعت من القصائد مدافن عظيمة لكل من لا يليقون بالتاريخ.
* أيهما تقصد: حروب الهجاء أم المديح؟
– كلتاهما. فما من مديح إلا ويقود إلى شارع فرعي من الهجاء، ولو بطريقة ما.
* هل توفر تلك اللعبة – الحالة براءة من ذنب قد تحسّ بأنك ارتكبته من جراء مديحك لهذا الشخص، أو تبرئة من موقف قد لا يليق بشاعر مثلكَ؟ بمعنى آخر، ألا تشعر بأن عوالم الهجاء والمدائح أدوات تُضعف الشعر أو تقوّض جمالياته؟
– لا يظن أحدٌ أن الجواهري كتب يوماً تحت طائلة الخوف أو التزلف، لأنني كنت مصدراً من مصادر الخوف بعينه، مذ شاركت في ثورة العشرين ضد السلطات البريطانية المحتلة للعراق، أي يوم كنت في عنفوان الشباب.
* وهل كان ذلك بسبب التكسب بالشعر، علماً بأن أحداً لا يملك معلومات عن هذه الفكرة بعد كتابتك لما يقارب عشرين ألف بيت من الشعر؟
– كنت أحشر الملوك والرؤساء وزعامات الدول والمقامات العالية بنفسي، كي يقفوا والشعر على خط واحد. أعرف أن قصيدتي أهم من بعضهم، لكنني كنت أبادل العروش الرسائل الحارقة التي كانت تجثو على صدري.
* في حياتكَ مجموعة صحف قمتَ بتأسيسها: “الفرات”، “الانقلاب”، ثم “الرأي العام”. كيف ابتليت بمثل هذا السحر، لتتعلق بالصحافة؟
– لم أر في العراق إلا ورقاً في مهب الريح، ورقاً حوله نيران عظيمة. لقد فطنت إلى تلك الفكرة مبكراً، أي منذ أن عملت في بلاط الملك فيصل الأول. لذلك دخلت إلى هذا السلك من أجل تمتين جدار الرأي العام ضد كل بلوى تأتي بها الريح على العراق. كذلك كانت فرصة لإثارة الشغب ضد تلك الحكومات، ومطالبتها بمختلف الإصلاحات.
* ما المسافة التي كانت تفصل بين الجواهري شاعراً والجواهري سياسياً؟
– ربما فرسخ. لكنه سرعان ما يذوب مختفياً، فيخرج الشعر من الفرن ناراً ضاجةً تحرق كل ما في طريقها من دون رأفة أو حدود.
* ألا تشعر بأن نتيجة مثل تلك، إنما هي طبيعية لكل شعر موزون مقفى، باعتباره يستعمل فن الإيقاع للسطو على السمع، فيقوم بتهييج البشر؟
– الشاعر الذي لا طبل عنده، أخرس لا نفع منه ولا من كتاباته. فقوة الشعر بالتأثير المباشر الحادّ، لا بمطالعة الشعر وتأمل الحياة في الكلمات من الخارج، أو من خلال تحليل القصائد وتدوير زواياها.
* إذا أخذنا بصحة هذا جدلاً، فسيكون وقفاً على الشعر العمودي وحده باعتباره معماراً إيقاعياً…
– وهل هناك شعرٌ آخر؟
* وماذا تسمّي شعر التفعيلة وقصيدة النثر؟ ألا تعدهما حركتين شعريتين في التاريخ الأدبي الحديث؟
– لقد نظرت بشيء من العطف إلى كتابات السياب. وجدت فيه شاعراً سابقاً لمرحلة الشعر الحر. وهو في جوهره، أو كما أراه أنا، ليس غير شاعر كلاسيكي أصابه نوعٌ من الانزياح، فقفز إلى خارج الإطار، ليلحق به ركبٌ آخر، حتى كانت حركة الشعر التي سُمِّيت بالشعر الحر أو بشيء من ذلك القبيل.
* هل تنكر على شعراء التفعيلة أو الشعر الحديث الجانب الشعري من وجودهم ضمن حركة الشعر بشكل عام، كون هؤلاء يخالفون أنظمة الشعر الكلاسيكي، أو لا يلتزمونها؟
– أنا لم أخش على الشعر من السياب، بل من “المخابيل” الذين راحت سفن الشعر الحر تحملهم على ظهورها الرخوة. لقد تكاثر هؤلاء كالنمل، وباتوا في حركة دائمة من التطاول على أصول الشعر ورموزه وتراثه. أنا أتعجب من بعضهم، عندما يقولون بأن كتاباتهم الشعرية باتت تسدّ رمق القارئ العربي، بعدما تخلص من القصيدة العمودية. كم هؤلاء فطاحل في الدجل والكذب .
* وهل تتمنى لو غرقت بهم تلك السفن، وأصبحوا طعاماً في أحشاء أسماك القرش؟
– ربما كان ذلك أفضل من أن يتشمسوا على متون تلك السفن، أو أن يقوموا بتلك التجارب التي قادتهم إلى ما يُسمى بقصيدة النثر أو الشعر المنثور.
* كما يبدو، فإن إيمانك بقصيدة النثر لا يزال غائماً أو معدوماً بشكل نهائي. كيف تنظر إلى حركة هذا الشكل الشعري وصعوده الشرس في العالم العربي؟
– لا أريد أن أطيل في البحث والتأمل عن قصيدة النثر في الوطن العربي، غير إنها بجملة قاطعة: جزء من مؤامرة الغرب في الشرق. لذا هي في فيضان زائد لتخريب ذائقة العرب.
* ألا تريد تغيير رأيك القديم، وخصوصاً بعد وصولك إلى العالم الجديد الآخر؟
– لم يتضح لي بعد أن قصيدة النثر شأن فردوسي. بل هي من ألاعيب بودلير ولعنات الغرب الذي يحاول دسّ السّم في عسل ما يُسمّى بالحداثة !
* لكن الحداثة التي تحاول إلغاء دورها في حركة الشعر العربي، ربما تنال منكَ أيضاً. ألمْ تعمل أنت على الخروج من قفص الكلاسيكية القديمة، فجددت الشعر بكلاسيكية غير نمطية، تحمل رؤى وعلاقات ووشائج لغوية لم تكن في حساب الشعر القديم من التراث العربي؟
– أنا عملت على تحسين شروط البلاغة في القصيدة، وتنزيل المعاني بالزخارف الثقيلة. حدث ذلك، عندما قمتُ بتعضيد أعمدة الشعر الأصلية في قصيدتي، بأعمدة الظل، من أجل أن لا ينكسر البيت، أو يسقط المعنى في الغوغائيات.
* تقصد كما فعل الشاعر بدوي الجبل؟
– لا. لم يكن ذلك صحيحاً. فبدوي الجبل كان شاعراً هفهافاً، يقيس ضغطَ دم كلمات قصيدته قبل أن يكتبها، خوفاً عليها من “الدوخة”، أي فقدان التوازن وعدم التماسك. فيما أنا، كنت متهوراً. أندفع قبل قصيدتي إلى الجحيم. أي كنتُ مثل شخصٍ تملأ رأسه النيران، ويريد الانتحار .
* هل كنت تغار من بدوي الجبل؟
– أبداً. لقد كنا أشبه بجبلين متوازيين، واحد أقرع والثاني مغطى بالثلوج .
* من كان منكما الأقرع؟
– ومن يكون غير الجواهري الذي احترق رأسه من المصائب.
* لكنكما كنتما غارقين بالسياسة، وتبحثان عن مقعدين لكما في الحكم. دخلتما المعارك تلو المعارك، ونال كل منكما نصيبه من السلطة والقمع والحبس، من دون أن يحالفه نجاح. فهل كان ذلك بسبب فشل الشعر بابتزاز الحاكم، أم لأن السلطة قد لا تنفع الشعر مثلاً؟
– لم أنظر إلى الشعر يوماً كشعر خالص لوجه الله، بمعنى الفن للفن. لكنني كنت أقحمه في حياة العامة والخاصة على السواء. رؤيتي للشعر كانت هكذا. أن يمشي الحاكم على حبل الشعر، فيما الناس تصفق له وسط حالٍ من الذعر. لقد كنت عضواً في مجلس النواب العراقي نهاية العام 1947 لكنني استقلت من عضويته احتجاجاً على معاهدة “بورتسموث” مع بريطانيا العظمى. بعبارة أدق، لقد تلمستُ السلطة بيدي. وجلست على أكثر من كرسي وثير، لكنني لم أجد الراحة البتة.
* وهل وجدتَ الراحةَ في دول الاغتراب والمنافي مثلاً؟
– وجدتها في القلق النفسي الذي عادةً ما يصنعه بي الشعر. شوف عيني، أنا قليل الإيمان بالفلسفات. ولا أؤمن إلا بما يجلي الصدأ عن القلب. فسِّر أنت ذلك على كيفك.
* أنت تأخذنا إلى النساء. عالم ما يسمّى بـ”الطراوة”. فكم كانت نسبة الحب في جسدكَ؟
– تعرف أنت شنو الكاتالوغ؟ الشاعر العظيم مثل الكاتالوغ الممتلئ بالنساء الملونات. النساء طاقة شعرية. أو هنّ الطاقة المتجدّدة التي يتحدث عنها العلماء في بحوثهم. ولا خيرَ في شعر لا يمتثل لتلك الطاقة التي تشحن روح الشاعر، وتجعله محطة لتوليد الكهرباء.
* لقد تزوجت مرتين من الأختين، مناهل أولاً، وبعد وفاتها تزوجت بأختها الأخرى أمونة. كيف لشاعر أن يتورط في رباط كهذا موحد اللحم والدم لأختين؟ هل كان الزواج الثاني ربما لسد الثغر بسبب وجود الأولاد وحسب، وليس فيه من الحب شيء؟
– أنا نفسي حائر حتى اللحظة بما فعلت. لا أعرف كيف جرت الأمور على ذلك الموال آنذاك. مرات أفكر وأعترف بأن قيامي بذلك العمل يمثل شبه خيانة لزوجتي الأولى. لكن دماغي ربما كان يعمل بشكل عشائري مفروض من العائلة في ذلك الزمان.
* أبسبب هذا الارتباك الداخلي رحتَ تعيش حياتك العاطفية، وأمجاداً غرامية في أوروبا مع الفرنسية أنيتا، أو مع أخريات من بلاد الفرنجة؟
– الحب مع أنيتا كان شيئاً مختلفاً. كأنه كان حب شمشون الجبار لدليلة. الحب العراقي مثل ما تعرف أذيّة. أي أنه يؤذي النفس ويؤذي الآخر. فما من محبوب في بلاد العراق ولم تنل منه جوية بمكواة الغرام. كل العراقيين يعانون من الحرمان العاطفي، كأن القدر جعل قلب كل عراقي أشبه بكور الطابوق، يحترق ببطء ولا يكف عن إطلاق الدخان لخنق العالم.
* لكن ثمة من يفند حبك لتلك الفتاة الفرنسية أنيتا نهائياً، ويعتبره ضرباً من الأوهام، لأنك لم تكن تتقن الفرنسية أو الانكليزية. وبأن ذلك الحب لم يكن إلا مجرد إعجاب شاعر بعابرة سبيل!
– ذوله الحجولك هذي القصص كلهم مخابيل ولا يعرفوا شيئاً. لأنهم ما يدرون بأن البنت الفرنسية هي التي تعرف العربي.
* وهل ثمة دليل على ذلك مثلاً؟
– يعني منين أجيبلك دليل وحنه هنا!؟
* هل كتبتَ قصيدة أفروديت إلهة الحب، من أجل امرأة بعينها؟
– لا. كتبت القصيدة تلك في العام 1932 من أجل المرأة بشكل عام.
* هل تتذكرها حتى اللحظة؟
– نعم. فهي قصيدة تشغل بالي ولا تكاد تبرح رأسي:
– مَنْ أتى أمسِ…؟
خبّريني…؟
ألا تدرينَ…؟
كلاّ فلستُ أُحصي الرجال..
أ جميلٌ فلم أُمَـتّـعْـهُ
إذ نِمْتُ عميقاً ممّا لقِيتُ الكلالا؟
ومتى راحَ…؟
في الصباح…؟
ألا يـرجـعُ… ماذا أبقى…؟
أغـادَرَ شـيّـا…؟
ناوليني أساوري
فـأتَـتْهـا بصُـنَـيْديقَ… أودعتْـهُ حُـليّـا
رفعتْ عندَها ذراعينِ
سُبْحانَ الذي يَخْلُقُ الجمالَ السّـويّا!
وتمشّتْ مهتاجةً… يتمشّى العُجْبُ
والحسنُ في الدماءِ غزيرا
نحوَ حَمّامِها تَرى مِنْ خلال الماءِ… فيهِ
ما يستثير الغرورا!
جسمَها اللدْنَ… والغدائرَ تنساب
كما أرْخَتِ العذارى سُتورا!
وخـريـرُ الميـاهِ في السـمعِ كالـقُـبلةِ… حـرّانـةً
تَهيجُ الشُعورا!
عبـدَتْ نـفسـهـا… فداعَـبَتِ النّـهـدينِ بالشّـعْر
غِبطةً وحُبُورا!
نَثَرَتْ شَعْرَها على كتفيها
نثـرةً خـيرَ ما تكون لديـهـا
واستدارتْ وهْناً على عقبيْها
فبـدا جـانـبٌ…
ولَـوّحَ ثـاني
وأرتـهـا المرآةُ لَـمْحَ بيان
عن خيالين…
ثـمّ يـرتجفان
وبقايـا ظلّيْنِ يصطرعانِ
***
ثـم لَـمّـتْ فُـضَـولَه بيـديـهـا
فَمَشَتْ لمّـةٌ على نَـهـديْـهـا
فتمشّى الضِرامُ في حَـلْـمـتَـيْها
فـأطـلا….
وثْـبـاً من الذروتينِ
مثلَما صكّ عاصِرٌ حبّتينِ
* الآن وأنتَ في هذا الفضاء المطلق، ما حجم اقترابكَ من الله؟
– حجم اقتراب الشمس من يده .
* ألا ترى في هذا الكلام مبالغة أو طيشاً شعرياً؟ فأنت لم تكن متديناً بالقدر الكافي…
– لا مانع يحول دون أن يبالغ شاعر بقربه من ربه، وخلفه الغاوون بالملايين.
* لكنك لم تكن صاحب طريقة، أو من الشعراء الصوفيين. في شعرك إسراف في الملذات وشمٌّ وضمٌّ وخلاعاتٌ عادة ما تأخذ الشاعر إلى النار، وتكسر له عنقه على الحجر الإلهي !
– في داخل كل شاعر فاسق، شاعرٌ صوفي عادةً ما ينام في ظله. أنا لا أعرف تفسيراً دقيقاً لمعنى الفسق. لأنني لا أراه دماً لا يعيش دونه الشعر. لذا كلما وقع الشاعر الفاسق في معصية كبرى، أسرع الأخير لنجدته وتطهيره، حتى أن ذلك الشاعر الصوفي طالما ينجذب إلى احتفالات الشاعر الخليع فينخرط في ليالي الأنس من دون التفاتة إلى الوراء .
* وتقول هذا بعد الموت وأنتَ في هذا المكان الخالد؟
– إن من الأرواح لدرجات عند الربّ. ولكل درجة فردوس. وفي كل فردوس حماةٌ للبشر من الروتين والكسل. وإذا كنا نحن الشعراء، أو بعضنا، أصحاب رؤى لا يضيق بهم إيمانٌ أو خيال، فذلك لأننا نستطيع التمدد في عوالمنا بحرية جيدة من دون خوف. عندما تتخلص من أن تكون بشرياً، فأنت تكون بذلك قد قتلت المخاوف في داخلك، وحررت الكتب القديمة بما امتلأت من نار وعذاب.
* مع مَن تجتمع في دار الآخرة. هل ثمة ملوك، رؤساء، أو أشخاص بعينهم؟
– لا وجود في هذه الدار لملك أو رئيس. أعتقد بأن الله وضعهم في مكان خاص. لا أعرف. فذلك سرّ لم اطلع عليه بعد. لكنني سمعت أن الأباطرة والملوك والسلاطين والرؤساء، يخضعون لتحقيقات لا تنتهي. يبدو أن وقت استجوابهم طويل طويل. والله أعلم!
* ألم يتم استدعاؤك وحشركَ مع الملوك مثلاً؟
– سؤالك خبيث، وفيه من الشيطنة ما يكفي.
* لِمَ تجد كل هذا في سؤال عابر كهذا، يا أبا فرات؟
– عندما كتبت في بعض الملوك والرؤساء القصائد، كنت أحاول أن أفزعهم من شعري، فيما لو حاول أحدهم إزعاجي. لذلك كانوا يقفون أمام الشعر مرتجفين .
* والمال؟ ألمْ تحصل على ثروة من وراء ذلك؟
– كنت لا أقيم وزناً للفلوس إلا بالمقدار الضئيل.
* منْ من الملوك والرؤساء الأكرم عليك بالدنانير؟
– المرحوم جلالة الحسين ملك الأردن. قيل لي إنه لم يسترح ليومين متتاليين حتى حفظ قصيدتي فيه عن ظهر قلب، ونام في اليوم الثالث.
* هل لأنه لم يتوقع أن تكتب فيه قصيدة من ذلك العيار الثقيل مثلاً؟
– فاجأته ببلاغة المبالغة .
* هل التقيت المتنبي في هذه الديار؟
– مرات قليلة. أردتُ مناقشته في بعض ما كتبه، لكن الرجل كان يتهرب مني متذرعاً بأنه مشغول بزواجه من خولة أخت سيف الدولة، وبالبحث عن فاتك بن أبي جهل الأسدي، قاتله وقاتل ابنه محسد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول غرب بغداد، أيام زمان.
* كأنك تبرر له فعلة عدم الوصل معك يا أبا فرات؟
– ماذا تريدني أن أفعل؟ فكل منا قد أُغرم بشعره حتى الثمالة.
* لكنه كان متيماً بذاته، على العكس منك!
– ومن قال ذلك؟ الجواهري ذاتٌ نائمةٌ في كل بيت من شعره، لأنني أحببت أن لا أفصح عن النفس إلا للباطن وحسب. قبل أيام سألني السؤال ذاته الزعيم عبد الكريم قاسم، وشرحت له ما تيسر لي من هذه الأفكار نفسها التي أحدثك عنها الآن.
* وهل تجتمع بالزعيم عبد الكريم قاسم؟
– لقد فرقتِ الشيوعية في العالم السفلي شعوباً عن شعوب أخرى، كان الصراع الطبقي وهماً أثقل الحياة، ولم ينج منه لا الزعيم ولا بقية طبقات الأمة.
* والبعث العراقي، ماذا فعل برأيكَ؟
– لم يكن البعث العراقي حزباً وفقاً للمنطق الإيديولوجي، بقدر ما كان مجموعة مشاريع للمقابر الجماعية، وأفعالاً لتفتيت العظام الآدمية .
* لكنك كنت مع الزعيم في مدّ وجزر…
– الزعيم أبيض. ربما هو الوحيد الذي كان مختلفاً عن بقية رؤساء الدول العربية. كان يحب الشعر. وهذا قد يمحو له بقية الأخطاء التي ارتكبت باسمه أو تحت مظلته.
* هل تلقي ببعض النظرات على أحوال العراق من هنا؟
يصمت…
فجأة ينهض من على كرسيه ويغادر المكان مكتئباً ومغمغماً ببعض العبارات غير المفهومة، كأن بركاناً انفجر في جسده. لم ندرك أن سؤلاً عن أحوال العراق، كاد يؤدي بحياة الشاعر للمرة الثانية. لكنه السؤال – المخرز الذي أراد الجواهري ردّه إلينا، لنهبط إلى أفران الجحيم الأرضي من جديد.