الأب صلاح أبو جودة اليسوعي
النهار
27012018
تبقى محاولات فضح حوافز الفاعلين السياسيّين على الساحة اللبنانيّة وحركيّاتهم ضمن النظام الطائفيّ السائد، من المساهمات التي لا غنى عنها في سبيل تنمية وعي وطنيّ سليم يسلك بمشقّة وجهة الخروج من الحالة الطائفيّة وإرساء أسس المواطنيّة والديموقراطيّة.
وفي هذا السياق، يلفت كلام الأستاذ جهاد الزين على طبقة سياسيّة محليّة تحترف مهنتَي “الوطنيّة والسياديّة” وتجيد التعبويّة والتحريض باسم هذَين الشعارَين، وتُتقن إعادة التموضع “وفاقيًّا أو صراعيًّا” وفقًا للمتغيّرات المحليّة والإقليميّة، وتجعل من زمن السلام، أو بالأحرى من حالة الاستقرار، فرصة “للمكاسب الصفقاتيّة” (مقالته في “قضايا النهار” بتاريخ 6 /1/ 2018).
ومن الأمثلة الراهنة عن مثل هذه البراغماتيّة أزمة مرسوم منح أقدميّة ضباط 1994. ظاهريًّا، تبدو مسألة تفسير الدستور في صميم هذه الأزمة. فتبعًا لمصادر الرئاسة الأولى، يكتسب المرسوم صفة دستوريّة، ويعود إلى القضاء المختصّ وحده حقّ البتّ في أيّ خلاف بشأنه.
أمّا مصادر الرئاسة الثانية فترى أنّ طريقة صدور المرسوم تخالف موادّ الدستور، وبالتالي ليست المسألة قانونيّة يمكن مجلس الشورى حلّها. وإذا انطوى الموضوع على مشكلة تفسير الدستور، تبعًا للمصادر نفسها، فالمرجع المختصّ إذذاك هو المجلس النيابيّ.
وبالتوازي مع الأزمة التي باتت تراوح في حلقة مفرغة، يسعى الذين يتقنون تدوير الزوايا إلى صياغة مخارج تتضمّن – كما هو شأن سائر حلول الأزمات السياسيّة – على نقائص قانونيّة ودستوريّة على السواء.
ولا شكّ أنّ أحدها، في نهاية المطاف، سيلاقي قبول الأطراف لما فيه خير البلاد واستقرارها واستمرار العمل الحكوميّ. وبكلام آخر، مهما طالت الأزمة، فحلّها معروف مسبقًا ألا وهو “لا غالب ولا مغلوب” تبعًا لتفسير ميثاقيّ أكثر منه دستوريّ وقانونيّ.
ماذا تعني هذه البراغماتيّة؟ ليس خافيًا على أحد أنّه تكمن في خلفيّة الأزمة نظرتان مختلفتان تقليديّتان إلى السلطة والنظام السياسيّ: نظرة أُولى ترى ضرورة استعادة دور رئاسة الجمهوريّة كاملاً، دور لم يفلح رؤساء ما بعد الطائف في الاضطلاع به كما يجب، وهذا أدّى إلى خلل كبير في طريقة عمل مؤسّسات الدولة، إضافة إلى إضعاف مكانة المسيحيّين، وتحديدًا الموارنة مَن تعود إليهم سدّة الرئاسة.
وفي ضوء هذه الخلفيّة تنتج قراءة دستوريّة معيّنة لمسألة المرسوم المذكور. وثمّة نظرة ثانية تعتبر أنّ اتّفاق الطائف قد أسّس لطريقة حكم جديدة تقوم على شركة بين الطوائف، ومن هنا تنتج القراءة الدستوريّة التي تفترض “التوقيع الثالث”.
وفي هذا الإطار، نُقل عن الرئيس بريّ قوله إنّ “البعض نسي ربّما أنّ اللبنانيّين دفعوا 150 ألف ضحيّة في الحرب الأهليّة ثمنًا للطائف، لكي لا يكون قرار الدولة عند شخص واحد، بل عند مجلس وزراء يمثّل التوافق في البلد” (جريدة “الأخبار” 5/1/2018).
والملاحظ في الحالتَين أنّ الأزمة – كما كلّ أزمة – ليس لها قراءات دستوريّة متناقضة فحسب، بل قراءات تُبقي على الحالة الطائفيّة، إذ تُهمل ما يكمن في الدستور من موادّ الغرض منها أن تجعل الدستور يتجاوز نفسَه، لا أن يراوح فهمُه ضمن حدود الحالة الطائفيّة. وهذا يلخِّص عمل البراغماتيّة المتّبعة: عدم تغيير أيّ شيء في الخلفيّات. لذا، تبقى حالات الحذر المتبادلة قائمة بين المرجعيّات السياسيّة، تخرقها من حين إلى حين “مكاسب صفقاتيّة” مشتركة يفرضها تقاطع المصالح الضيّقة في استحقاقات معيّنة، وتلائمها الظروف الخارجيّة.
وإزاء هذا الواقع المرير، تبرز أهميّة الإضاءة على براغماتيّة دستوريّة هادفة، أي براغماتيّة تؤدّي إلى التحرّر الكامل من الطائفيّة.
إذا كان تجاوز الحالة الطائفيّة عملاً بقراءة للدستور شفافة ووطنيّة يبدو في نظر الكثيرين أشبه بوهم نظرًا إلى تأصّل الطائفيّة في الذهنيّة اللبنانيّة، وبسبب المناخ الدينيّ المهيمن على الشرق كلّه بدءًا من دولة إسرائيل اليهوديّة وصولاً إلى السعوديّة الوهابيّة وإيران الخمينيّة، فإنّ تغييبها يجعل من البراغماتيّة اللبنانيّة السائدة خيانة وطنيّة بكلّ ما في الكلمة من معنى.
فهل يكفي أن تقف هذه البراغماتيّة على إيجاد مخارج تحفظ ماء الوجه للفاعلين السياسيّين الأقوى، وتخدم نفعيّتهم، وتخفي الريبة المتبادلة والتكاذب؟ أين هي من أهداف الدستور السامية؟ قد يزداد السياسيّون دهاءً في تدوير الزوايا واستثمار أزمنة الاستقرار القائم على توازنات هشّة، ولكن ليس من هدفٍ سامٍ يُلهمهم ويجذبهم إليه.
ولا شكّ في أنّهم يعلمون هذا الهدف، ولعلّه يرد في مواقفهم، ولكن إمَّا كمثالٍ يدحضه سلوكهم على أرض الواقع، وإمّا كضرب شعبويّ. ولكن لا أثر له في براغماتيّتهم التي تسير في الاتّجاه المعاكس. إنّها براغماتيّة من دون رؤية، وخطرها الأشدّ أنّها تحوّلت إلى غاية بحدّ ذاتها؛ تدور حول نفسها في حلقة مفرغة، ودورانها يجرّ البلاد رويدًا رويدًا إلى أسفل. والأدهى أنّ شريحة واسعة من اللبنانيّين تأقلموا مع هذه البراغماتيّة، وما عادوا ينتظرون أكثر من “تمشية الأمور” وحسب. وخلاصة القول إنّ البراغماتيّة السائدة ليست غاية بل وسيلة. أمّا تفضيلها على الغاية أو بالأحرى جعلها غاية، فذلك يعني هلاك الوطن.
ليس المطلوب تبنّي غاية الدستور الأسمى بمعزلٍ عن الواقع، فهذا سيجعلها مجرّد وهم. ولكن ليس المطلوب في المقابل تغييب الغاية عن البراغماتيّة السائدة، بل إعادة تصويب هذه لتكون في خدمة الغاية. فهل سيتجرّأ السياسيّون عندنا على القول لنا بصدق إلى أين نحن ذاهبون من دون غاية الدستور الأسمى؟