
- مروان اسكندر
- 15 تشرين الثاني 2019 | 00:09
النهار
يعيش لبنان فترة من الانعتاق من التبعية لزعماء بددوا أفضل ما حققه بلدهم منذ الاستقلال، اي النظام الاقتصادي والمالي الحر الذي كانت تشوبه اخطاء تفشي السيطرة الاحتكارية لبعض المؤسسات التجارية الكبرى.
السيطرة الاحتكارية بدأت تتفكك مع احتلال بلدان كإيطاليا، ومن ثم اسبانيا، فالصين وكوريا، وقبلهما اليابان، مواقع هامة في مجالات التجارة العالمية، فأصبحت سيارات “
الهوندا” منافسة للسيارات البريطانية مثل “الجاكوار”، وكانت السيارات الالمانية حققت تقدمًا أصبح ملحوظًا منذ الثمانينات، وما حدث في مجالات تسويق السيارات تفشى في مجالات أخرى سواء منها الالبسة، المأكولات، السياحة، النشاطات المالية الخ.
قواعد احتكار المنتجات والخدمات (مثل شركات التأمين) تبعثرت وأصبح لبنان، نتيجة طبيعته المستندة الى الاستيراد، السوق الاول لمختلف المنتجات، وتولّى دورًا في الترويج على نطاق اقليمي، وكانت هذه الحالة على تطور ما بين 1952 و1973 تاريخ تفجر العلاقات اللبنانية – الفلسطينية نتيجة محاولة ياسر عرفات التحكم بالقرارات اللبنانية المصيرية ولسوء الحظ حقق بعض النجاحات في هذا المضمار إلى حين انسحابه وقواته من بيروت اوائل خريف 1982.
بعد التوصل الى اتفاق انهى الحروب اللبنانية الفلسطينية السورية في لبنان، تحولت قوى السيطرة الاحتكارية الى الاحزاب السياسية، ولا سيّما منها تلك التي تآزرت مع القوات السورية التي تحكمت بالقرارات والتوجهات المالية في لبنان منذ اوائل التسعينات، ومنذ ذلك التاريخ وبسبب تضارب المصالح والاهواء توسع دور القطاع العام، ونتج من ذلك التحكم بالمنافع غير الشرعية. لكن الوضع اللبناني عانى انحدار سعر صرف الليرة ما بين 1984 (4 ليرات لبنانية للدولار) وأيلول 1992 (2850 ليرة للدولار) مع ما استتبع ذلك من تضخم، خصوصاً مع اقرار زيادات معاشات موظفي الدولة بنسبة 60 في المئة عام 1991 والتي كانت بالفعل موازية لـ120 في المئة بعد احتساب وقع الزيادة على تعويضات نهاية الخدمة.
يمكن تسمية عقد التسعينات والعقد الاول من القرن الحادي والعشرين عقدي تضخم القطاع العام واستئثاره بالنسبة الكبرى من مكونات الدخل القومي، واسهم في هذا الامر توسع اعمال اللبنانيين في الخارج، سواء في دول الخليج، القارة الافريقية وعدد من البلدان الاوروبية. وبقيادة المصرف المركزي، ترسخت قواعد العمل المصرفي وارتفعت رؤوس أموال المصارف ودمجت مصارف عدة في 37 عملية دمج وقرر شركاء تصفية 7 مصارف، واستمر التوسع المصرفي حتى عام 2016 عندما برزت مشاكل لدى بعض المصارف نتيجة الاسراف في التسليف والتوسع. ومنذ ذلك التاريخ وسلطات المصرف المركزي تسعى إلى تعزيز أوضاع المصارف وزيادة تدفق الودائع، وهذا المسعى الاخير لم يؤت النتائج المرجوة، وباتت ودائع المصارف في لبنان أقل مما كانت ولولا وجود مصارف لبنانية في الخارج لكانت نسب الانخفاض أوسع.
خلال شهرين من هذه السنة بدأت تظهر مؤشرات أزمة لتأمين سيولة بالعملات الاجنبية لاستيراد مختلف أنواع البضائع والسلع والمنتجات الغذائية والعلاجية الخ، حيث ان القطاع العام الذي صار يشكل بعد احتساب مؤسسات تابعة له نسبة 60 في المئة من الدخل القومي بات عاجزًا عن تأمين أموال ملحوظة للمشاريع الحيوية، كما لتسديد حصة الحكومة في تمويل نسبة 25 في المئة من تكاليف فرع الضمان الصحي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وضمان المرض والامومة الذي يشمل 1.4 مليون لبناني ولبنانية.
عام 2008 كانت رئاسة ميشال سليمان تحظى بقسط من الثقة شجع خلال أزمة 2007 – 2008 العالمية، التي استوجبت تخصيص 5 تريليون دولار لتصحيح أوضاع المؤسسات الاميركية و3 تريليون لتصحيح أوضاع المؤسسات الاوروبية، على تحويل اللبنانيين 24 مليار دولار عام 2008 من المصارف العالمية مثل “كريدي سويس”، و”السيتي بنك”، و”HSBC”، و”بنك باركليز” الخ الى المصارف اللبنانية. وكانت النتيجة ارتفاع موجودات المصارف اللبنانية بنسبة 30 في المئة، وتحقق أعلى معدل نمو منذ اوائل التسعينات أي بنسبة 9 في المئة، وتوافر من التحويلات فائض على ميزان المدفوعات ساعد لبنان على امتصاص تحول ميزان المدفوعات الى عجز متوسع منذ عام 2014.
توضحت معالم الهدر في القطاع العام بصورة لافتة منذ عام 2012، فالحاجة إلى تأمين الكهرباء لتغطية حاجات اللبنانيين المنزلية والمؤسساتية أوجبت التوجه إلى زيادة طاقة الشبكة، التي كان رفيق الحريري قد رفعها بما يساوي 1040 ميغاوات ما بين منتصف التسعينات واوائل القرن الحادي والعشرين. وقد استشعر حاجة لبنان الى زيادة طاقة الانتاج باعتماد الوسائل والتقنيات الحديثة الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، فقام وفد منه بزيارة للبنان وعرض تمويل كامل حاجات زيادة طاقة الانتاج وتحسين شبكة التوزيع مقابل فوائد مخفوضة وتشجيعية، فرفض وزير الطاقة آنذاك جبران باسيل العرض الكويتي وأكد للوفد ان حاجات التمويل متوافرة وانه حصل على التزام من مجلس الوزراء بما يساوي 1.2 مليار دولار، وتوجه الى التعاقد مع شركة قبرصية – يونانية لانجاز معمل دير عمار بطاقة 450 ميغاوات ولا يزال المشروع حبرًا على ورق. وفي عام 2012 وحده بلغ عجز حسابات مصلحة كهرباء لبنان 2.2 ملياري دولار، كانت تكفي لإنجاز محطتين حديثتين بطاقة 2000 ميغاوات، لو تحققتا لكنا وفرنا المقترضات المتراكمة لتغطية عجز الكهرباء التي بلغت ما بين 2010 و2019 أكثر من 32 مليار دولار استناداً إلى دراسة الدكتور منير يحيى المدرجة في كتاب حديث صدر عنوانه: “أسباب الانتفاضة – مطبات السياسة الاقتصادية المالية اللبنانية”. ويكفي ان نذكر ان العجز التراكمي بعد احتساب الفوائد على القروض يرتفع الى مستوى 46 مليار دولار تزيد على نسبة 52 في المئة من الدين العام وتحول دون الحصول على قروض اضافية ميسرة ما لم تكن مرتبطة بتنفيذ الاعمال والاشراف على تنفيذها، أي ان الهيئات المقرضة لا تثق بالإدارة اللبنانية، إن لشؤون الكهرباء، أو المياه أو ادارات المنشئات العامة.
المتظاهرون الذين ثابروا على الخروج الى الساحات ومواجهة مؤسسات الهدر والاحتجاج على تمهل السلطة في معالجة أسباب العجز الحقيقية، عمدوا إلى توسيع حلقات الاحتجاج التي اصبحت تشمل مناطق اضافية كان منها الاثنين المنصرم تجمع كبير لمواطني شتورا، وقد شاهدنا مواطني بعلبك وكفررمان يعبرون عن مطالبهم.
نعود الى الوضع المصرفي لنقول إن الممارسات الجارية تدفع لبنان نحو خانة الدول التي تفرض مراقبة مشددة على التحويلات، وهي تالياً تحد من حرية استعمال الودائع بالعملات والتي تساوي 72 في المئة من الودائع لدى المصارف، وهذا الامر يعني تصعيب المعاملات التجارية، والتضييق على تحويل اقساط الطلاب الذين يسعون الى اكتساب العلوم في الخارج، وابعاد الممكن استقطابهم لايداع اموال في لبنان ما دامت حرية التصرف بمالهم غير متوافرة.
سادتي الكرام،
لقد بعثرتم الثقة المعنوية بالنظام الاقتصادي اللبناني ولن تستطيعوا استقطاب الودائع بعدما حصرتم أوجه استعمال الاموال الشخصية، وهذا أمر بالغ الخطورة وسيحاسبكم عليه شباب الغد الذين كانوا يأملون في النشاط في لبنان مستقبلاً، وتعقد المعاملات المصرفية يؤخر الدورة الاقتصادية وتالياً يتسبب في توسع ممارسة سياسات ديكتاتورية.