في الحقيقة تحتاج إجراءات تفكيك الرموز هذه إلى مزيد من المراقبة والفهم والأسئلة وهو ما تحاول أن تفعله الصحف ومراكز الأبحاث الأميركية. وهي كما ظهر بدأت كموجة منذ العام 2013 وإنما تصاعدت بشكل كثيف بعد أحداث “تشارلوتسفيل” الأخيرة. طبعا في سياقها السياسي تبدو هذه الإجراءات كنوع من العقوبة والمواجهة للتيار العنصري الأبيض الذي أدت عدوانيته إلى أحداث دموية. مع ذلك السؤال: هل استئصال الرموز الانفصالية هو العقوبة الشافية أم هو مجرد تعبير حاد من الليبراليين والمساواتيين الأميركيين ضد التيار العنصري المستجد والذي من الثابت أن رئاسة دونالد ترامب عبّرت عنه بقدر ما غذّته.
في لبنان وجدت الطائفيات – المناطق حلَّها بالحفاظ على ظاهرة تكريم الرموز الخاصة بكل طائفية آتية من الحرب الأهلية ونادرا ما تنوجد رمزيات متضادة مع بعضها البعض أو متجاورة في المكان الواحد. المشكلة لدينا تكمن الآن لا في عدم قبول الآخر بل في إنكار الوقائع نفسها من موقع التمترس على جبهة خلاف سياسي وهذا شكل من الإلغاء “السلمي”. طبعا التمترس الخلافي ليس هو غير الطبيعي في أي مجتمع منفتح، أو (في حالتنا) مفتوح ومغلق على انفتاحاته. بل غير الطبيعي هو ظاهرة إنكار الوقائع كأننا انتقلنا من حرب إلغاء الآخر إلى سِلْمِ إنكار الوقائع حسب ما يعتقد الإنكاريون أنه حاجة سياسية. والأمثلة عديدة من فريقي الصراع.
سأعطي هنا مثالا إنكاريا صارخاً من أحداث رغم إجماع اللبنانيين مشاعريا وأمنيا على أنها مفيدة جدا لهم تشهد ظاهرة الإنكار. إنها أحداث جرود البقاع الشمالي التي تتحول إلى انتصار وطني.
من المضحكٌ كيف تتواصل أجواء السجال بين الأطراف اللبنانيين حول بعض مسألة واضحة جدا وبديهية:
التنسيق بين الجيشين اللبناني والسوري.
فرغم الوضوح الساطع أن معارك الجرود في البقاع الشمالي من المستحيل عمليا أن تحصل من دون غرفة عمليات عسكرية ووراءها غرفة عمليات سياسية لا زال هناك من يدعو إلى عدم التنسيق و”يؤكد” عدم وجوده.
الجهات السياسية التي تنكر التنسيقين السياسي والعسكري تضحك على جمهورها قبل أي شيء آخر. إنه فصل جديد من طريقة شائعة بـ”إدارة” الصراعات الإعلامية عندما يتساوى الإعلام مع الوهم ولكن من دون أن يفقد فعاليته التناتشية التي لا يضيرها الإنكار ولو غير العقلاني.
عاش الخطاب السياسي العربي عقودا على الإنكار الكبير في شأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولا زال حيال مواقع وعلاقات متعددة ديبلوماسية واقتصادية وأمنية متصلة بهذا الصراع الأساسي الذي أصبح “هامشيا”.
لا شك بوجود تنسيق سياسي “عميق”، وليس فقط عسكريا لوجستيا بين الدولتين السورية واللبنانية ومنذ زمن طويل.
الأميركيون أيضا يلعبونها وبطريقة إيجابية وعقلانية في البقاع الشمالي. يلعبونها إلى حد حصول فعلي لما لا يحبّ “حزب الله” أن يسمّيه كذلك بل لا يحب أن يسمّيه بالمطلق وهو “تحالف” رباعي أميركي سوري لبناني وإيراني في هذه البقعة الصغيرة من خارطة الصراع مع الإسلاميين التكفيريين المسلحين، ومن لا يزال، ربما، يقف وراءهم.
ما يحصل، والشكر للآلهة، هو تطبيق صغير ومهم وأقل تعقيدا وحجما ومصالح لما يحصل بين واشنطن وطهران في العراق منذ ما بعد إسقاط الأميركيين، وبفضلهم وحدهم عسكرياً، لصدّام حسين.
هناك في بلاد ما بين النهرين الجنوبية أي العراق، يتواصل نوع من إدارة علاقات تفاهم صراعية وتفاهمية هائلة متواصلة بين واشنطن وطهران مرّت بمراحل مختلفة ولكن “لغزها” التحالفي العميق لم يتغيّر منذ أكثر من 14 عاما.
البقاع الشمالي هو الآن تطبيق صغير رغم حجمه الكبير والإيجابي جدا على لبنان بين إيران والولايات المتحدة وباتت تنضم إليه، أو الأدق هو ينضم إليها، ثنائيّةٌ بل ثنائية روسية أميركية واقعية لم توقف ولا تستطيع أن توقف الحرب السورية ولكنها نقلتها من حرب ذات بيئة حربية إلى حرب ذات بيئة “سلمية”. تطبيق صغير على خارطة تطبيق شاسعة تمتد من أفغانستان إلى لبنان. حتى ديكتاتور بارانوياكي (وكل ديكتاتور هو بارانوياكي) مثل رجب طيّب أردوغان بات جزءا منها في شمال سوريا أمام أولويته المختلفة بتكريس سلطته الداخلية وباحتواء الخطر الانفصالي الكردي في تركيا وسوريا، وهما شأن واحد، مختلف عن الوضع الكردي العراقي.
لقد افتتح الإيرانيون ببراعة بل بدهاء منذ غزو الجيش الأميركي لأفغانستان هذه اللعبة الاستراتيجية القائمة على معادلة حقيقية ولكن محيِّرة: أقصى العداء، أقصى المشاركة. لم تنقطع المعادلة إلا مؤقتا في فترة الاتفاق النووي في عهد الرئيس أوباما وبدت كما لو أنها مشروع تحالف عاد الرئيس ترامب وردّه إلى المعادلة الأولى ولكن دون أن يظهر أنه سيحوِّله إلى مواجهة كاملة، لا بسبب موقع إيران وحده وإنما الأكثر بسبب ضعفه الداخلي والشخصي المتزايد.
أتحدث عن الإيرانيين الذين ربما بمتناولنا أن نفهم أكثر دهاء دولتهم لأننا وإياهم كعرب ننتمي إلى عالم ثالث متخلِّف بينما الدهاء الأميركي هو أوسع وأكبر لأننا هنا نتحدث عن الدولة الأكثر قوة وتقدما في العالم المتقدم.
أستطرد إلى كل ذلك لأنتقد استمرار عقلية الإنكار في السجال الداخلي اللبناني. المشكلة العميقة هنا مع هذا الخطاب الإنكاري ليس عدم فعاليته، بل هو فعال ومؤثّر تعبويا، ولكن طاقته التضليلية كبيرة و تمثّل وجها خطيرا لاستمرار تخلفنا. مع العلم أن الإنكارية تنتهي غالبا في السياسة اللبنانية إلى عكسها.
نحن مجتمع مرضوض بالحرب الأهلية في منطقة باتت كلها تشبهنا بهذا الارتضاض.
يمكن للإنكاريين ولغيرهم أن يحتفظوا بموقفهم من طبيعة النظام السوري إلى الأبد. هذا حقهم وهو يستند إلى بيئة سياسية متعددة الجنسيات وإلى قيم ديموقراطية أكيدة كانت في أساس انطلاق الثورة الشبابية السورية في المدن قبل أن تتحول وبتأثير عسكرة دولية وإقليمية إلى حرب أهلية. لكن تقييم الوقائع يفترض تدقيقاً في المخاطبة العامة.
خطاب الإنكار يودي إلى الواقعية المفرطة. أحيانا يسيران معاً.