رحابة العقل والروح بديلاً من نشر ثقافة الكراهية والقتل بين الناس
قد يقول الغلاة من المسلمين ما يشاؤون في “الكفّار”، لكن ما الذي يفعل هؤلاء الغلاة في العالم غير تشويه دينهم وتراثهم وإلحاق أكبر الأذى في حق بلادهم وثقافتهم وشعوبهم؟ بل ما هي الجهود التي يبذلونها لرسم صورة حضارية إنسانية عن دينهم؟ الجواب عندنا هو: لا شي! كل الذي يفعلونه، نشر ثقافة الحقد والكراهية بين الناس، وتذكير العالم بأنهم رسل الظلام وأسياد ثقافة الموت. لكن بروكسيل “الكافرة”، التي معظم المهاجرين فيها من “المسلمين”، أعقل من أن تردّ الصاع صاعين، وها هي تلجأ إلى رد من نوع آخر، تقيم معرضاً عنوانه “الإسلام هو جزء من تاريخنا أيضاً”. معرض فريد من نوعه، يرسم بالنص والصورة علاقة الإسلام مع الغرب، التي تعود حسب الوثائق المدوّنة، إلى مئات السنين.
لا “تخجل” بروكسيل ومعها الأوروبيون، بعد كل ما ارتكبه الإسلام السياسي في القارة الأوروبية، من القول للعالم إن الإسلام جزء من تاريخهم. إنهم لا يتنكرون لهذا التاريخ، ويحاولون أن يستمدوا منه دعائم ترسي بين أوروبا و”المسلمين” علاقة قوامها التسامح وقبول الآخر. ها هي إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وبلجيكا الكاثوليكية تاريخاً، العلمانية حاضراً، ما انفكت تسمح ببناء المساجد، وفي فرنسا وحدها اليوم أكثر من ألف مسجد، لكن المتنطعين المتحفظين من “المسلمين” غير راضين. يريدون نشر الإسلام في أوروبا ليجعلوها مثل الدول الفقيرة المتخلفة التي هجروها! مع ذلك يبقى السؤال: أي إسلام هذا الذي يريد “المؤمنون” أن يذيعوه في الناس؟
أوروبا “الكافرة” هذه تقول إن الإسلام ساهم في رسم معالم كثيرة للحضارة الأوروبية، وفي مجالات عدة كالطب والفلسفة والعمارة والعلوم. هذا ما تقوله إيزابيل بينو، المسؤولة في منظمة “تيمبورا” التي نظمت المعرض. تضيف هذه المؤرخة: “نريد أن نوضح أن الإسلام جزء من الحضارة الأوروبية، ولم يفد إلينا قبل عهد قريب، بل ترجع جذوره إلى 13 قرناً”. بروكسيل تفعل ذلك في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد “المسلمين”، وتثبت الدراسات أن غالبية سكان العاصمة البلجيكية سيكونون من المسلمين خلال مدة لا تتعدى 50 عاماً، وذلك حسب نسب الولادة بينهم قياساً إلى سكان البلاد الأصليين.
هذ المعرض الذي يدعمه الإتحاد الأوروبي، رسالة واضحة مفادها أن أوروبا لا تتردد في قبول الإسلام جزءاً من ثقافتها وتاريخها، شريطة أن يكون ديموقراطيا يقبل الآخر، مهما كان هذا الآخر. لكن الغلاة من “المسلمين” يريدون المزيد، وأن تكون الشريعة قانون البلاد، ولم يتورع أحدهم في لندن عن القول قبل سنوات إنه يتمنى أن يعيش إلى اليوم الذي يرى فيه برلمان إنكلترا التاريخي قد تحول إلى مسجد، مئذنته ساعة بيغ بن الشهيرة!
نخالف الحق إذا قلنا إن الغلاة هم غالبية “المسلمين” في بروكسيل وغيرها من عواصم أوروبا. الغالبية منهم تزدري الغلاة من غير شك، وتعتبرهم بعيدين عن الإسلام الصحيح. لكن ما هو هذا الإسلام الصحيح الذي تريده الغالبية من “مسلمي” أوروبا؟ ما هي قواعده وما هي طقوسه، ومن هم ممثلوه الحقيقيون؟ لا تبدو الصورة واضحة عندهم، ولا هي واضحة عند الأوروبيين أيضاً. السبب أن حركة الإصلاح الحقيقي في المأثور الإسلامي لم تبدأ بعد. حدثت في المسيحية التاريخية، لكن لا شيء في الأفق يشير إلى أنها بدأت في الإسلام. هنا تكمن المعضلة الأساسية في علاقة “المسلمين” بأوروبا، وموقف أوروبا من الإسلام المعاصر. ما لم يباشر “المسلمون” حركة الإصلاح هذه قبل فوات الأوان، ويقدموا التوصيات التي توجد إسلاماً أوروبياً يقبل الأديان كلها، ويقبل الناس على اختلاف مذاهبهم الروحية وغير الروحية، فسوف تتفاقم المشكلات وتنذر بعواقب لا أحد فب مقدوره أن يتوقع حجمها ومداها.
لن يقدر الإسلام في أوروبا أن يجعل أوروبا مسلمة، لكن في مقدروه أن يصير أوروبياً إذا تهيأت له العقول الحرة والظروف المناسبة، وأن يتكيف مع التقاليد الأوروبية، ويغدو فعلاً إيمانياً مجرداً من التقاليد والعادات والأشكال التي لا علاقة له بها كجوهر. في السيرة النبوية أحاديث ومواقف كثيرة تشوه الإسلام، وتشين الرسول وتغض من شأنه، وهذا ماثل حتى في أهم كتابين من كتب السيرة، هما “صحيح البخاري” و “صحيح مسلم”. لكن في السيرة أيضاَ ما يحبب الناس بالإسلام ويجل من قدر نبيه، وبمقدور العاقل والمسلم الحقيقي أن يستمد منها أشياء تسهّل الحياة، مثل قول النبي: “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”. يكفي أن يعتمد “المسلمون” هذا القول الذي يتماشى مع “فقه التيسير”، ليتكيف الإسلام مع هذا العصر وكل عصر. حين نقول “التكيف”، لا نعني المس بالجوهر، بل الخروج من التقليد إلى رحاب الإيمان الذي يكفل حرية الإنسان، ويقبل العلماني والملحد وكل صنوف البشر، ويأخذ بطقوس وأشكال من نوع آخر، علماً أن التاريخ ينبئنا بأن الأديان كلها، ومنها الإسلام، أخذت بتقاليد البلاد التي دخلتها. في كلامه عن تاريخ المسيحية، يقول المؤوخ اللبناني الأميركي فيليب حتي في كتابه الموسوم “تاريخ الشرق الأدنى” إنه كان على المسيحية أن تصبح رومانية قبل أن تدعو الناس ليكونوا مسيحيين، وهذا يعني أن المسيحية كرسالة “محلية” لم تنتشر في العالم وتسود إلا بعد أن أصبحت رومانية! هذا ما يجب أن يحصل للإسلام في أوروبا حتى يهدأ ويستقر، ويصبح جزءا من ثقافة أوروبا، مثلما هو جزء من تاريخها. ما لم يحصل ذلك، لن تكون العلاقة بين الغرب و”المسلمين” في الغرب متجانسة، وسيشتد التنافر، خصوصاً بعدما قويت شوكة الإسلام السياسي، وضرب الإرهاب عشرات الأبرياء من الناس.
في كتاب “الدولة اليهودية” لثيودور هرتسل، يقول الصهيوني العتيق إن الغيتو اليهودي في أوروبا هو الذي أوجد اللاسامية التي عاناها اليهود وعانتها أوروبا. كان هدف هرتسل من كتابه أن يقول لقومه من يهود المهاجر والشتات إن الحل لمشكلاتهم ومشكلة اللاسامية هو عودتهم إلى “أرض الأجداد”، وبناء دولة خاصة بهم، يلجأون إليها وقت المحن والخطوب، وها هم قد تمكنوا أخيراً من بنائها.
“المسلمون” في الغرب لا يحتاجون إلى أن يغتصبوا أرضاً ليست لهم ليقيموا عليها دولتهم الإسلامية، كما فعل الصهاينة عندما قدموا إلى فلسطين متسلحين بخرافة اسمها أرض الوعد. دولهم “الإسلامية” هذه قائمة، وفي إمكانهم أن يعودوا إليها إذا لم ترق لهم الحياة في الغرب. المشكلة أن غالبيتهم تؤثر البقاء في الغرب فيما هذه الغالبية تعتبر التكيف “حراماً” وخروجاً على “الصراط المستقيم”، وتتمسك بتقاليد وطقوس تراها من صميم الدين. يحصل هذا فيما المال يتدفق من دول “إسلامية” لدعم هذه “الحملات الإسلامية” على أوروبا، تساندها فضائيات من الشرق تدخل بيوت المهاجرين “المسلمين” لتحضهم على البقاء على ما هم عليه، وعلى عدم الاندماج، وتنهاهم عن التعامل مع “الكفار”، مواطني البلاد الأصليين!
“إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى”. قول جميل تنسبه السيرة إلى النبي العربي. نستشهد به لنردّ على من قد يتهمنا بالكفر والزندقة، ويحمَلنا من القول والفعل ما نحن منه براء. نيتنا سليمة في هذا الذي نرمي إليه على أي حال، ولو كره الغلاة! رجاؤنا أن يصبح “المسلمون” مسلمين حقاً، يتعايشون مع الحياة ومع الناس، يقبلون الآخر ويقبلهم الآخر، ويتكيفون مع تقاليد البلاد التي هاجروا إليها، أو ولدوا فيها، ليسود السلم بينهم وبين الناس.
قد يتساءل قارئ: ما الذي نعنيه بالتكيف، وما معنى القول أن يصبح الإسلام أوروبياً؟
المسألة باختصار تتصل بالطريقة التي ننظر فيها إلى الدين، وإلى “الكتب المقدسة”. حين يكون الدين قشوراً وأشكالاً، لا جوهراً ولباباً، يصعب التكيف. يقول ت. س. إليوت “كان على المسيحية في تاريخها أن تتكيف دائماً مع الواقع، وهذا ما أبقاها عقيدة جديرة بالإيمان”. كانت المسيحية في القرون الوسطى كنيسة جامدة، شديدة البأس والبؤس، ولم تلن وتصبح منفتحة رحبة إلا بعدما تكيفت، وقبلت أن تتعايش مع الدولة المدنية العلمانية، حتى صارت علمانية في روحها. من بين كل القديسين اللاتين في التاريخ، كان أوغسطين أشهرهم وأرفعهم شأناَ، وكتابه المشهور “مدينة الله” لم يعط المسيح حقه كما أعطته الدولة المدنية التي نشأت الغرب، لأن أساس هذه الدولة قام على مبدأ المساواة والحرية وتقديس القانون. الإسلام لم يتبنّ هذه الدولة المدنية بعد ويا للأسف. بقيت طقوسه وأشكاله وقشوره جامدة وحجبت جوهره ولبابه، وابتعد عن أن يكون فعل إيمان حقيقياً كما يجب أن يكون، لذلك يستغله الحكام والسياسيون، ليبقوه سلعة يتاجرون بها على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها، وثرواتها وحاضرها ومستقبلها.
لن يتعزز جوهر الإسلام إلا إذا ابتعد المسلمون عن رجال الدين، والمؤسسات الدينية التي تفسد أخلاق الأجيال الناهضة. في القرآن لا يوجد رجال دين، ولا توجد خلافة، وليس هناك دولة دينية في القرآن، والزواج في الإسلام عقد مدني من أساسه، كما كتب الشيخ الراحل الجليل عبد الله العلايلي. لا ضير في بناء مسجد لا مئذنة له، ولا حاجة بعد إلى مؤذّنين ما دام هناك ساعات تنبّه المؤمن إلى وقت الصلاة، وهذه موجودة على كل هاتف نقال! لا حاجة بعد إلى صوت مدفع في رمضان يذيع في الناس أن حان وقت الإفطار، كما لا حاجة بعد لمسحراتي (طبّال) يزعج الناس بطبله عند الفجر ليقول لهم إن وقت السحور حان. ليس في القرآن ما يشير إلى أن أركان الإسلام خمسة، وكل ما هو من الطقوس وضع لرغبة الحاكم ورجال الدين، حتى الطريقة التي يصلّي فيها المسلمون ليست مرسومة في القرآن، ولا يوجد نص قرآني يفرض على المسلمين شكل الصلاة وفحوى الدعاء، بل فيه ما يفيد أن ذكر الله يمكن ان يكون وقوفاً وجلوسا أو على الجنوب! قد يقول قائل هذه واجبات وأشكال ومراسم وطقوس من أصول السنّة التي لا يقوم الإسلام من دونها. ليسمح لنا هؤلاء أن نقول لهم إن الإسلام هو القرآن ولا شيء آخر غير القرآن، لأنه النص الوحيد “الجامع المانع” الذي لا أحد من المسلمين يشكّ في صحته، هذا على رغم اختلاف التفاسير. أما السنّة فتقاليد أخذت من أسفار كتبها مؤرخون بعد مئات السنين من وفاة النبي، ولعبت فيهم المصالح السياسية والمذهبية كل مذهب، وما كانت لتذاع في الناس لولا رضى الحاكم، وفيها من التناقض واختلاف الرأي والمواقف على رغم ذلك، ما يثبط العزائم، ويبعد حتى أشد المؤمنين عن إيمانه!
تبقى مسائل مثل الحجاب والزواج اللذين يحولان دون الإندماج الكامل بين “المسلمين” والأوروبيين. يتمسك بعض “المسلمين” بالحجاب لأنهم يعتبرونه من أصول الدين. لا نريد أن نقطع برأي في هذا الموضوع ونقول إن الحجاب ليس شرطاً وفرضاَ، أو أنه شرط وفرض. لن نلج هذه المتاهة الفقهية حتى لا نقع في المحظور، وندخل في حديث لا طائل من دونه، لكن يمكننا أن نعتمد منطق الأشياء ونقول إن الحجاب ما هو إلا شكل، ولا علاقة له بالإيمان الصادق، لا من قريب ولا من بعيد، كما أن ذيوله النفسية كثيرة، وخصوصاً بين الطالبات في المدارس العلمانية، لأنه يظهرهن بمظهر مختلف. مهما يكن، مسألة الحجاب وفق النص القرآني لم تحسم بعد، والمعركة بينه وبين السفور ما انفكت قائمة، وهي قديمة قدم القرآن. لكن بما أنها غير محسومة، حتى بين كبار الفقهاء، فلا ضير من اللجوء إلى التيسير وتخلي “المسلمين” عن الحجاب، لأن الإيمان الحقيقي لا يعتد بالشكل على أي حال، هو شعور فطري إنساني يقطن القلوب، وكم من إمراة سافرة أقرب إلى “الله” من إمرأة محجبة، وكم من علماني ملحد أصدق قولاً وأصفى نية من متدين يؤدي الصلوات الخمس، ويستغفر ربّه في الحرم! أما مسألة زواج المسلمة من أوروبي، وهي العائق الأكبر الذي يحول دون الإندماج الكامل، فنعرف أنها أمر يثير الغرابة والاستهجان، والرفض المباشر من طرف “المسلمين” كافة، لكننا سننظر فيها و”أمرنا إلى الله” كما يقول المؤمنون. سننظر فيها متسلحين بمبدأ الحق والحقيقة والحرية العقلية ومنطق الأشياء، ونقول ما يأتي:
نحدد أولاَ من هو المسلم. المسلم في نظرنا هو المؤمن وليس المتدين. المتدين ولد تربى على دين معين ومذهب معين (لا فضل له)، والمتدينون في العالم هم على دين آبائهم، ولا أحد من الناس اختار دينه ساعة الولادة. أما المؤمن فشخص لا عصبية في قلبه، نظر في “الكتب المقدسة” وتدبّرها بصفاء وبدأ يحب الناس، كل الناس، بغض النظر عن جنسهم وألوانهم وعقائدهم. هذا يؤكد أن المسلم الحقيقي هو من آمن “بأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله”. هذا من الحديث، أما القران فيوضح ذلك أشد الوضوح في الآية الكريمة من سورة البقرة: “قالت الأعراب آمنا لا بل قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”. المسلم الحق هو من يعمل صالحاً. هنا نصل إلى نقطة محددة يرتضيها القرآن، ويقبلها منطق الأشياء مفادها ان المسلم هو المؤمن، وليس “المسلم” بحكم الولادة! هذا يعني إذا كان هناك مواطن أوروبي صالح فهو مسلم حقيقي، أما من لا خير فيه ولا صلاح، فليس مسلماً حقيقياً. عليه نقول: إذا تزوجت مسلمة فاضلة من أوروبي يتحلى بصفات الخلق الطيب، يكون زواجها عندئذ زواجاً إسلامياً لا ريب فيه، أما إذا تزوجت من رجل ولد “مسلماً” لكنه شرير كذوب، لا يعرف الصدق ولا الرحمة، فزواجها منه قد يكون متماشياً مع التقاليد، لكنه لن يكون زواجاً إسلامياً على الإطلاق، إلا إذا اعتبرنا الشكل والأعراس والمراسم عماد الدين وجوهر العقيدة! بهذا المعنى الواسع لمفهوم الإيمان، يمكن أي مسلمة حرة، أن تتزوج من مواطن أوروبي ويكون زواجها عندئذ إسلامياً. إذا حلت هذه الأمور في علاقة الجاليات الإسلامية مع أوروبا والغرب، وحلها ممكن شرعاً إذا صفت النيات، فسوف تتراجع قوى الظلام إلى الوراء، ويطلع فجر جديد يعطي الأمن والأمان، للمؤمنين وللناس أجمعين.
أعرف أن الغلاة من “المسلمين” وكثيرين من “المسلمين”، لن يروقهم ما نقول حول زواج المسلمة من أجنبي، لكننا سنرد عليهم جميعاً بقول الشيخ الإمام محمد عبده، يوم زار أوروبا في بدايات القرن الماضي، وعاد منها ليذيع في الناس قولته الشهيرة “ذهبت إلى الغرب فرأيت مسلمين ولم أر إسلاماً، وعدت إلى الشرق فوجدت إسلاماً ولم أر مسلمين”. قول يحملنا على التساؤل: ألم يكن المسلمون الذين عناهم ذلك الإمام الجليل، مواطنين أووربيين، ولدوا وترعرعوا في كنف الدولة المدنية الأوروبية؟!
قد يحسن أن نعطي هنا مثلاً على شكل سؤال ترتضيه العقول المحايدة، ويقبله بعضنا بحكم التجارب الشخصية، ويمكن دعمه بالوثائق في كلّ وقت. السؤال هو: في أي البلاد نرى هامش الفساد والغش والكذب والنفاق والرياء وكل ضروب الرذائل أعلى من غيره؟ ألسنا نجده في البلاد التي تتخذ الدين شعاراً، أو تذكر اسم “الله” كثيراً، كما في الدول المحسوبة على الإسلام؟ من ناحية أخرى نرى هذا الهامش كبيراً أيضاً في الدولة “الكاثوليكية” التي هي أشد تعلقاَ بالمسيحية من غيرها، بينما نلحظه أقل في الدولة “االبروتستانتية” الأقل تديناً. السبب أن الأخيرة أصلحت كنيستها، نبذت القشور وأخذت باللباب، تخلّت عن الشكل وأخذت بالجوهر. علّمت أبناءها أن “المسيح الحق” رحمة وليس ذبيحة! هذه الدولة لا تذكر اسم “الله” في لغتها المحكية، ولا في لغتها المكتوبة إلا نادراً، ولا مكان في أدبياتها لعبارة “إن شاء الله” التي يرددها العرب والمسلمون ملايين المرات كل يوم! هي دولة تحررت من عقال الدين، وأعقل من أن تحمّل “الله” أعباء كلما أصابها فشل أو ألمّت بها هزيمة، أو كلما حققت نصراً! إنها ليست شديدة الاعتقاد بمسيح مجسد، ولا بولادته من بتول اسمها مريم، لكنها من حيث الإيمان الصادق، أقرب إلى “الله” من دول تسبّح بحمد “الله” بكرةً وأصيلا!
في الختام يبقى السؤال: هل تدبرت يوماً أيها القارئ الكريم السبب وراء ذلك كله؟ سأجيبك عنه باختصار هو لبّ هذا المقال، من أول كلمة في عنوانه، إلى آخر كلمة فيه: كلما اشتد التدين تراجع الإيمان واتسعت الهوة بين الناس، لأن التدين ما هو إلا مظهر من مظاهر العنصرية القاتلة. هو كالجدار الفاصل الذي تبنيه إسرائيل، وتقيمه أميركا على امتداد حدودها مع المكسيك. كلما اشتد التدين، تعززت مكانة رجال الدين، والمؤسسات الدينية، وعلت أصوات الأجراس وصيحات المؤذّنين، ومعها الرايات والأسنّة، والصلبان والمصاحف، يعلّقها الشبان على صدورهم في طريقهم إلى الموت. بهذه المظاهر التي تعمي البصائر، يفرح الحكام الظالمون، الذين لا تهمّهم إلا مصالحهم، ومصالح المتآمرين معهم على قتل الناس والأوطان. كلما اشتد التدين، خفتت أنوار المعرفة، وأصبح الوطن مثل صخرة هشة، من بين ثنايها تتسلل النفوس الفاجرة. كلما اشتد التدين ضعفت الضمائر، وفرغت القلوب من كل عطف ورحمة، وتغلبت ثقافة الجهل والبؤس والظلام، على ثقافة العقل والنور والحياة.
كادر
هذ المعرض الذي يدعمه الإتحاد الأوروبي، رسالة واضحة مفادها أن أوروبا لا تتردد في قبول الإسلام جزءاً من ثقافتها وتاريخها، شريطة أن يكون ديموقراطياً يقبل الآخر
كادر
لن يقدر الإسلام في أوروبا أن يجعل أوروبا مسلمة، لكن في مقدروه أن يصير أوروبياً وأن يتكيف مع التقاليد الأوروبية، إذا تهيأت له العقول الحرة والظروف المناسبة