
الياس خوري
القدس العربي
24082021
منذ انفجار 4 آب- أغسطس الوحشي، والدخان يحجب الرؤية في بيروت وكل لبنان، بحيث صار التعامل مع الأحجية اللبنانية بالغ الصعوبة.
البعض ينسب الانهيار إلى ما يطلق عليه اسم «المنظومة السياسية»، التي تتألف من زعماء الطوائف والقبائل التي تربعت على السلطة بعد الاجتياح العسكري السوري، ثم أضيف إليها بعد 2005 المركب العوني- القواتي. فهذه المنظومة المتحالفة مع شبكة المصارف أمعنت في نهب الدولة ومواردها، بحيث أوصلتنا إلى الحضيض، وهي لا تزال تتعابث في صراعاتها على مواقع النفوذ، تاركة الانهيار يتفاقم.
والبعض الآخر يحمّل حزب الله مسؤولية الانهيار، فالحزب أدخل لبنان في المنظومة الإيرانية، وورطه في الحرب ضد الشعب السوري، وقاده إلى أماكن بعيد كاليمن، بحيث قدم تبريراً لاختناق اقتصادي يعود جزئياً إلى مواقف الدول الخليجية المتحالفة مع إسرائيل.
والبعض الثالث يرى أن الانهيار هو نتيجة السياسة المالية التي اتبعها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، والتي اعتبرت أن إنقاذ ما تبقى من عصابة أصحاب المصارف، يعلو فوق مصلحة الجميع.
والبعض االرابع ينسب الانهيار إلى الشخصية العظامية التي طبعت العماد عون، وقادته في الماضي إلى مغامرات عسكرية فاشلة، ثم أوصلته إلى رئاسة الجمهورية محمولاً على دعم حزب الله، عبر تعطيل البلاد وإحداث فراغ رئاسي وسلطوي شامل.
إن قراءة الانهيار من منظور أحد هذه الاحتمالات يدمر وعينا وقدرتنا على فهم الأمور وربط عناصرها.
والواقع أن الدخان الكثيف الذي يرشح من صراعات الشركاء في هذه التركيبة المعقدة، يُضيّع احتمالات الوصول إلى الحقيقة. فهناك صراعات عميقة بين زعماء المافيا الطائفية. الخطر من الانهيار لم ولن يوحدهم أو يذيب خلافاتهم، بل يزيدها اشتعالاً، لأن كل طرف يريد الهرب من تبعات الانهيار، ويسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية في ظل هذا التردي الشامل للأوضاع في لبنان.
التحذير من غرق السفينة لا يحثهم على فعل أي شيء، فقد أصيبت جميع عناصر النظام بالتكلّس والعُته، وكل واحد منها يريد الهرب بأكبر قدر من المكتسبات المادية والسلطوية حتى ولو مات الناس جوعاً وقهراً وذلاً.
لكن كيف نحلل هذا الواقع المعقد؟
أعتقد أن علينا أن نجد الرابط الذي يجمع هذه السلسلة من الاحتمالات المتناقضة.
هل هم شركاء؟ وهل تناقضاتهم هي جزء، فهي جزء من هذه الشراكة، فهم يلتقون موضوعياً حتى وإن كانوا يعيشون على تجارة الكراهية؟
تعالوا نبسّط المسألة، فالمنظومة المافيوية اضطرت للقبول على مضض بشراكتها مع حزب الله، لأنه أصبح الحامي الفعلي لنظامها القائم على الفساد والنهب والبلص. وهذا ليس جديداً، ألم يلعب رفيق الحريري دور وزير خارجية النظام السوري في مرحلة التحالف السعودي- السوري التي أطلق عليها السيد نبيه بري اسم «س. س»؟ الظروف كانت مختلفة بالطبع، فبعد انفجار هذا التحالف نتيجة الغزو الأمريكي للعراق واغتيال الحريري، نشأت متوالية لبنانية من الصراعات انتهت إلى تثبيت حزب الله كوريث للنظام السوري في حماية آلة السلطة، رغم خلافاته العميقة مع بعض أركانها.
المنظومة المافيوية، بما فيها امتداداتها المصرفية، في حاجة إلى حماية حزب الله كي لا تتهاوى وسط هذا الانهيار الشامل، كأن الداء صار الدواء. ولقد أثبت الحزب قدراته على القيام بهذه المهمة، عبر قمع انتفاضة 17 تشرين بالشراكة مع ميليشيا حركة أمل.
وهنا يقع مأزق المنظومة العميق، حماية حزب الله لها دمر تحالفاتها الإقليمية، وتركها من دون أي دعم عربي أو دولي كانت تعوّل عليه لاستمرار حفلة النهب المنظم التي تديرها.
لكن السؤال المحير، هو لماذا يقوم حزب الله بهذه المهمة طوعاً؟ لا شك أن الحزب كغيره من قوى النظام، مستفيد من مناخ الفساد والنهب والتهريب، لكن هذا لا يبرر حماسة حزب يستقطب فقراء الطائفة الشيعية بشعارات دينية ومقاومة، للقيام بهذا الدور.
يجب أن نبحث عن جواب لهذا السؤال في مكان آخر.
وهذا يحتم علينا أن نقرأ حزب الله بصفته امتداداً للقوة الإقليمية الإيرانية. ففي نظام سياسي متهالك يستطيع الحزب أن يفعل ما يشاء، يرسل مقاتليه إلى سورية لدعم الديكتاتور، ويتحرك بحرية في اليمن والعراق، ولا من رقيب. لكن الأهم هو أن تهالك النظام السياسي اللبناني سمح له بأن يتحول إلى جيش هو الأقوى في لبنان، ولهذا الجيش مهمة إقليمية محددة هي المساهمة في بناء قوس النفوذ والتمدد الإيرانيين.
أما لماذا يفعل الحزب ذلك فجوابه بسيط، إنه حزب ولاية الفقيه، أي أنه حزب عقائدي صارم، وهو جزء من أممية صغيرة لكنها فعالة تلتف حول مركزها الإيراني.
لكن، لماذا لا يستولي الحزب على السلطة؟ وهو قادر على ذلك.
والجواب أن السلطة ترتب عليه أعباء بلد منهار، وسيتفاقم الانهيار في حال تسلم السلطة. الوضع الحالي، رغم صعوباته، هو الوضع الأمثل، أو هكذا يعتقدون.
أما القطاع المصرفي المضطر للخضوع للإملاءات الأمريكية، فقد وجد نفسه في المأزق، وأدار أكبر عملية لنزوح الأموال منذ اعتقال سعد الحريري في السعودية وإطلاق سراحه بتدخل فرنسي.
يبقى ميشال عون، الذي تُفاقم عظاميته وجنون السلطة المستولية على ولي عهده من تعقيد الأزمة. التيار العوني يقع في المنظومتين، فلقد امتطى السلطة بشهية مفتوحة للنهب من جهة، كما أنه يعلم أن دوام تسلطه مرهون بتحالفه الكامل مع حزب الله من جهة ثانية. يضاف إلى ذلك روحية المغامر- المقامر التي طبعت شخصية جنراله منذ تسلمه مقاليد نصف الحكومة بعد نهاية عهد أمين الجميل.
هذه التركيبة المعقدة والمتداخلة التي تجمع لصوصاً وشبيحة وزعماء ميليشيات ومقاتلين ومقاومين، هي التي رمت لبنان في هذه الهاوية السحيقة. لم يعد إنقاذ ما تبقى من النظام القديم ممكناً.
ففي مجزرتي آب-أغسطس عامي 2020 و2021، ومع دمار بيروت، ومشهد الضحايا الذين احترقوا ببنزين شبيحة السلطة في التليل في عكار، يكون لبنان قد وصل إلى القعر. سرطان الفساد والنهب صار مستعصياً على أي دواء. فبعد محاولة إنقاذ النظام رغماً عن أركانه على الطريقة الماكرونية، لم يعد أي علاج ممكناً.
الطريق إلى جهنم التي بشرنا بها ميشال عون فُتحت على مصراعيها، فلبنان ليس ذاهباً إلى الإفلاس والجوع والفوضى والدولة الفاشلة، بل سقط في الجحيم.
التركيبة بمنظومتيها، تعمل بشكل متقاطع ومتزامن ومتكامل، المنظومة السياسية – المصرفية لم تعد تستطيع الانفكاك عن منظومة حزب الله، لأنها ستفقد حمايتها أمام الغضب الشعبي، كما أن حزب الله متورط حتى النخاع في الدفاع عن هذه المنظومة لأنها تغطيه من جهة، وتترك له هامش حرية الحركة من جهة ثانية، وتجنبه محاولة الاستيلاء على السلطة بشكل كامل، وبذلك تحميه من السقوط في حروب أهلية طويلة، تستنزفه وتغرقه في الوحول المتحركة، من جهة ثالثة. أما الانقلاب العسكري، فلن يكون سوى جزء من وحل الحرب الأهلية، إلا إذا أتى كجزء من صفقة أمريكية-إيرانية!
العبقرية الشعبية التي صكت شعار «كلن يعني كلن»، فهمت منذ البداية أن هذا النظام إما أن يبقى بمنظومتيه، أو ينهار مع انهيارهما.
وبعد نهاية احتمالات المشاريع الإصلاحية التي وأدتها المنظومتان، صار إصلاح النظام أو ترميمه مستحيلاً.
أي أن سقوطه صار محتماً.
قد يأخذ السقوط أشكالاً متعددة، أخطرها هو الاحتضار الطويل الذي سيقوم بتحويل اللبنانيين إلى شعب من الجياع والمتسولين والمهاجرين، أو قد يأخذ أشكالاً أخرى، مليئة باحتمالات للعنف الأهلي الموضعي.
البعض يتفاءل بإعلان لبنان دولة فاشلة توضع تحت الوصاية الدولية، لكنه تفاؤل ساذج. فإذا كانوا ينتظرون الخلاص على الطريقة الأمريكية التي تبهدلت في العراق وتتشرشح الآن في أفغانستان، فهذا هو الحُمق بعينه.
لبنان المتروك لمصيره، لن يجد خلاصه إلا على أيدي اللبنانيات واللبنانيين، هذا هو الأفق. صحيح أنه أفق دونه الأهوال، لكنه الأفق الوحيد.