راشد عيسى
Mar 27, 2018
القدس العربي
إنها مجرد مراوغة من رقابة الأمن العام اللبناني حين يروّج أن منع فيلم «بانوبتك»Panoptic من العرض جاء بسبب عبارة تقول إن المسجونين في نظارة الأمن العام يمكن أن «لا يحاكموا وينتسوا تحت الأرض»، التي ترد أثناء الحديث عن سجن هو مركز لتوقيف الأجانب المخالفين.
ولو قبلت مخرجة الفيلم رنا عيد بحذف تلك العبارة لاخترعت الرقابة ذريعة أخرى، ولا سيما أن عيد قبلت قبل ذلك بتمويه وجوه رجال الأمن العام والمساجين الذين ظهروا في الفيلم.
الحكاية أن الفيلم يصيب قلب الدولة الأمنية اللبنانية بنقد قاس. فهنالك أولاً التركيز على صورة الجيش كـ «مانيكان»، مجرد دمية، والفيلم لم يخترع تلك الدمية، لقد وجدتْها الكاميرا في احتفال جماهيري حاشد يمجّد الجيش اللبناني، وقد انتصبت تلك الدمية في وسط الحشد مرتدية الزي المعروف للجيش.
كذلك فإن الفيلم (وثائقي إنتاج العام 2017) هو رسالة تخاطب فيها المخرجة والدها الضابط الراحل، تسرد فيها شيئاً من ذكرياتها معه وعنه، ومن بينها كيف ترك الجيش بعد انتهاء الحرب بـ «عفو عام» (وزادت بعدها الثكنات والأجهزة الأمنية)، و «ركض ليزيل صفته كعميد من على باب البيت». هنا تقول الراوية، المخرجة «خلصت الحرب، طلعنا من الملجأ، بس ما طلعنا من تحت الأرض».
أما كيف مات الأب فقد جاء ذلك بعد السابع من أيار/مايو 2008، ما تسميه المخرجة دخول المسلحين إلى بيروت، من دون أن تحدد أن هؤلاء لم يكونوا سوى ميليشيات «حزب الله» التي روّعت شوارع المدينة حينذاك.
تقول عيد إن والدها بدا وكأنه قرر الرحيل، فتوقف قلبه بعد شهر واحد من ذلك التاريخ. واضح إذاً أن الأب الراحل، الضابط في الجيش اللبناني كان لديه احتجاجه الكبير على جيش بلده، ورحل، كما يبدو، احتجاجاً على اقتحام السابع من أيار.
تتطرق المخرجة عيد إلى بعض رموز الحرب الشهيرة، مثل بناية المرّ الشاهقة، التي كانت طوابقها العليا للقناصة أيام الحرب، وطوابقها السفلى للتعذيب. هذا المبنى هو ما تشبهه المخرجة بـ «بانوبتك» : «ما بيغمض عيونه.
بيشبه ارغوس بانوبتك، عملاق الميثيولوجيا اليونانية، كان عنده مية عين، شغلته يراقب. وقت ينام كان يسكّر خمسين عين. ويراقب بالباقي. عملوا سحر لبانوبتك تا يغمض المية عين وقتلوه، البرج بعده واقف.. رجع مركز عسكري».
وتشبّه المخرجة البرج بالجسر الواصل بين قصر العدل ومبنى الأمن العام، ملمّحة إلى أن الجسر ليس سوى خط تماس بديل عن الخط الكائن زمن الحرب. الجسر، كرمز وصورة حاضر ومهيمن طوال الفيلم. بل إن الفيلم يختم تقريباً مع صورة للجسر يظهر فيها برج المرّ مع تعليق من المخرجة: «إكرام الميت دفنه».
لا ينسى الفيلم التطرّق إلى مبنى شهير آخر، هو البوريفاج، مركز المخابرات السورية الشهير، الذي كان فندقاً في طوابقه العليا، وفي السفلى أقبية تعذيب. المبنى يلخص كل المشهدية التي اشتغل عليها الفيلم، حيث هذا التضاد الصريح بين الحياة المتدفقة، الأضواء، الإعلانات، فوق الجسر، فوق الأرض، وحياة أخرى موازية تحت الأرض، في الملاجئ، الأقبية، السجون. إنه عالم كابوسي مصحوب على الدوام بشريط صوتي صارخ ومدمِّر.
هل نستغرب بعد ذلك أن يمنع فيلم ينتقد بهذا الوضوح أداء الجيش (المانيكان حسبه)، تكاثر الثكنات والأجهزة الأمنية، ميليشيا «حزب الله»، والبوريفاج؟ أبداً. المنع الجديد يؤكد أن الفيلم محق في ما يقول، بخصوص الرقيب العملاق بانوبتك، الساهر أبداً على مراقبة اللبنانين و»قصقصة» أفلامهم، وأحلامهم أيضاً.
خطر الاندماج!
في كل بلاد العالم التي تستقبل اللاجئين والمهاجرين ستجد أن من أبرز هموم الحكومات كيفية إدماج المهاجرين في المجتمعات الجديدة. في ألمانيا مثلاً يكاد يكون هذا شغل الحكومة الشاغل، إلى جانب أحزاب ومنظمات عديدة. إلا في لبنان سيصبح الاندماج خطراً يجب التحذير منه.
هذا ما ظهر في برنامج تلفزيوني على قناة «أو تي في» التي تعود لـ «التيار الوطني الحرّ» الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية.
من كلماتها الأولى ستُظهر المذيعة انحيازها ونواياها تجاه اللاجئين السوريين، حتى قبل أن تناقش أو تستعرض تقريراً أعدّ من أجل الحلقة. تتحدث المذيعة عن عدد لا يستهان فيه من النازحين (الطلاب) السوريين، (حوالى 150 ألف طالب) و «هذا يؤدي إلى تسرّب الطلاب اللبنانيين لأمور اجتماعية وغيرها».
أما التقرير المصور فيستحدث (وبشكل يوحي أن مؤامرة ما وراء ذلك) عن «طلاب مسجّلين من خلال دعم اليونسيف والاتحاد الأوروبي ودول أخرى مانحة بالتعاون مع وزارة التربية اللبنانية». حيث «يدفع 600 دولار عن كل طالب».
ويضيف التقرير «وقد عمد الأهل (اللبنانيون) إلى سحب أولادهم لاعتبارات خاصة بهم، فبعضهم لا يريد لهم الاختلاط بغير اللبنانين المختلفين بأطباعهم وثقافتهم، أو من بيئة مغايرة».
ثم يتحدث التقرير عن «مبان تعليمية أصبحت مرهقة بفعل استخدامها قبل وبعد الظهر». وعن «خطر على الأمن الاجتماعي يشكله الأطفال». ولا يتردد في إيراد عبارة تشدّد «على خطر الاندماج الحاصل في المدارس». هذا قبل أن يخلص إلى نتيجة «هذا سينتج أجيالاً تعلمت بلبنان، ما سيطرح إشكالية التوطين بعد الاندماج التمهيدي منذ الصغر، لتتمكن من دخول سوق العمل بسهولة، كونها تعلمت وتخرجت في لبنان».
كل العبارات الواردة في هذا التقرير تخجل القلب حقاً، كيف يمكن لإعلامي، مذيع، مراسل صحافي، محرر أن ينطق بكلمات عنصرية إلى هذا الحد، كيف يمكن لجمهور أن يستمع من دون أن يهتز له ضمير، بل هو جمهور قابل أساساً للتصفيق وارتكاب الأفظع. أرأيتم لماذا المجزرة كانت بهذا الاتساع؟ هذه الاستمرارية؟
كاتب فلسطيني سوري
راشد عيسى