اخبار عاجلة
الرئيسية / أبحاث / أبحاث اجتماعية / الآنسة ميّ (زيادة) مئة وستّ سنوات على الحضور، وطنها لم تعثر عليه إلاّ في الكتابة

الآنسة ميّ (زيادة) مئة وستّ سنوات على الحضور، وطنها لم تعثر عليه إلاّ في الكتابة

إذا ملنا إلى التفاؤل بما سوف يأتي فيحسن بنا أن نستذكر ما قد جرى، لعلّنا نقوى على تحمّل تراجيديا الزمن، التي لا مسرح آخر لها غير الحاضر. فكان المشوار إلى القاهرة ضرورة ماسّة، بعدما تبيّن لي أنه يستحيل، من دونه، مقاربة تتوخى الإلمام وإنْ ببعض من حقائق تلك الظاهرة المشرقطة التي سماها والداها، نزهة والياس زيادة، ماري (المولودة في العام 1886). لكنها خلعت، منذ مطلع الصبا، هذا الإسم الذي أُسقط عليها لترتدي اسماً من حياكتها.

هذه المسألة الإسم كانت واحدة باكرة من تكاوين فرادة هذه الكاتبة: عدّدته، ونوّعته بأسماء علم فرنسية، لاتينية، فرعونية، وعربية، قبل أن تستقرّ على ميّ، إنَّما مقترناً بالآنسة: الآنسة مي. غير أنها حافظت على مروحة الأسماء، تفيئ الى التوقيع بواحد منها لاعتبارات عائدة إليها أساساً، كما لو أنها تنتقي اللباس الذي ترتئيه لائقاً بالنص المعيّن (ديوانها الشعري بالفرنسية وقّعته بـ”إيزيس كوبيا”). مع النضج والحضور المرموق، ساد إسم ميّ، فيما راحت تخبو التسميات الأخرى: عائدة، كنار أو كنار شهاب، خالد رأفت، ميمي برقش، دُخَّلَة، علماً أن خالد رأفت ظلّ في ذاكرة قلمها.

دين مقابل دين!

ليس بالمستغرب قطعاً، أن ينطوي ركون ماري زيادة إلى ميّ على دلالة نوعية مغايرة لتلك الدلالات الذاتية التي شُغِفتْ بها إبّان مراهقتها بخاصة. ماري زيادة، في مصر، وجدت نفسها في بلد أبناؤه متجانسون من حيث الهوية اللغوية العربية، لكنهم متباينو الهوية الدينية، البالغة النفاذ في صوغ جوهر الإنتماء آنذاك. فالأكثرية العددية في مصر، هم المسلمون، أمّا الأقلية فالمسيحيون الأقباط. وهذا، في بلد كان يرزح تحت الإحتلال البريطاني. لكنّ التيارات والتكتلات والنخب السياسية التي كانت تتطلّع للتخلّص من النير الكولونيالي لم تكن موحّدة الرؤية. فالزعيم الوطني مصطفى كامل الذي توفي في العام 1908 (أي بعد سنة على حلول آل زيادة في مصر)، كان متمسكاً بالرابطة العثمانية الإسلامية أساساً صلباً لبرنامجه التحرّري. قبله، كان جمال الدين الأفغاني، الذي أرسى في مصر تياراً فعّالاً بالفكر والسياسة وحتى بالتنظيم، يختزل الكولونيالية ومسألة التحرر منها، في معادلة تبسيطية عاصفة: إنها المسيحية، الصليبية مجدّداً إنما بنسخة أدهى، لا يقوى على مواجهتها وكسرها إلا الإسلام والمسلمون: دين مقابل دين!

في المقابل، برزت مجموعة من الكتّاب والمثقفين والقضاة والمحامين والسياسيين المصريين، الفرنكوفونيين، عاملين بدورهم على تحرير مصر. كان معظمهم من متخرّجي “المدارس العليا” المأثورة عن نظام التعليم الفرنسي، وبادروا الى تأسيس أوّل جامعة في القاهرة باسم “الجامعة المصرية”، في العام 1908. لم تكن الدولة هي التي أنشأتها بالطبع، بل نشأت أهلية من طريق اكتتاب مالي، كان في عداد المشاركين في إطلاقه ورعايته أحمد لطفي السيد، سعد زغلول، فتحي زغلول، على عبد الرازق، مصطفى عبد الرازق، حفني ناصف (والد الكاتبة المعروفة بـ”باحثة البادية”)، عبد الستار الباسل، وقاسم أمين قُبيل وفاته.

في هذا المناخ العام، صدر العدد الأول من جريدة “المحروسة” في القاهرة في 11/1/1909 بإسم صاحبها ومديرها المسؤول الياس زيادة. وكانت ماري توقّع كتاباتها فيها طوال عامي 1909 و1910، تأليفاً وترجمة، بأسمائها التي خبت.

“حبّ ميّ الأكبر”

أمّا إسم ميّ فظهر، للمرة الأولى، في عدد “المحروسة” الصادر في 3 شباط 1911، في الصفحة الثانية، لا الأولى. وذلك ضمن إطار خاص بعنوان “خواطر”، أُلحِقتْ به، تعريفاَ، عبارة: “لحضرة الآنسة صاحبة الإمضاء (ميّ)”. على هذه الصورة، وبهذا الإسم، باشرت ميّ حضورها الكتابي في “المحروسة”: “… ذهبت إلى الجامعة المصرية وفي قلبي شيء من السرور[….]، ولم أجد في الجامعة أثناء المحاضرة أكثر من ستين سيدة بين سوريات ووطنيات». ثم كرّت سبحة خواطرها عن “علّة العصر والتربية”، و”السعادة” و”حملة الأقلام”. في 6 تموز 1911 كان عنوان مقالها في “خواطر”: “لا عدالة عندكم أيها الرجال. الإنصاف تأنّث”.

التوقّف عند هذا التفصيل في شأن اسم ميّ ارتأيته ذا فائدة. فمن شأنه أن يبدّد التباساً شارك في تعميره الغالبية الساحقة من الكتّاب والدارسين الذين تطرقوا إلى ميّ. تجزم الراحلة والباحثة الجادّة سلمى الحفار الكزبري، في أكثر من مكان من مجلّد كتابها الأول، أن اسم ميّ ظهر في العام 1912 (وفي مكان آخر تقول بالعام 1913)، أي العام ذاته الذي دشّنتْ فيه ميّ تراسلها مع جبران خليل جبران. ألا ينطوي هذا على الإيحاء بأنّ تفتّح ميّ ورسوخها في حقل الكتابة إنما هو وثيق الصلة بعلاقة الحبّ الفريدة مع جبران، العابرة للقارات والمحيطات دونما أي لقاء؟ إنّه أمرٌ تبدأ منه، على ما أرى، الحكاية التي نسجت تلك الأسطورة، الجميلة الأخّاذة بحدّ ذاتها من غير ريب، لكنّ ميّ هي من دفع ثمنها الغالي: لم تُعرف، ولم تُعرَّف إلا بكونها مجرد ملحق بجبران، لا شخصية لها مستقلّة بذاتها.

أمّا الباحث جوزف زيدان، وفي مطلع الصفحة 17 من مقدمته اللافتة لكتابه الجديد “الأعمال المجهولة لميّ زيادة”، فيذهب إلى القول: “تأسيس ميّ صالونها الأدبي الذائع الصيت عام 1912”. وهذا أمر يوحي أيضاً بارتباط شخصية ميّ وحيويتها الخلاّقة بجبران، الذي اعتبره زيدان في مقدمة كتابه “حبّ ميّ الأكبر”.

افتتحت ميّ ندوتها الأدبية الأسبوعية، كل مساء ثلثاء، في العام 1913. أي بعد، وليس قبل، أن نقشت حضورها المدويّ في المهرجان التكريمي للشاعر خليل مطران، حينما اعتلت المنبر إلى جانب الخطباء الرجال، مكلَّفة إلقاء كلمة جبران. غير أنها لم تكتف بتلاوة نص “نزيل نيويورك”، على حدّ تعبيرها، بل ارتجلت تقول باسمها ما اعتبره طه حسين اللفتة الوحيدة التي استحكمت بإصغائه، واستثارت إعجابه بفرادة مضمونها، وبإلقائها الجذّاب. وكان هذا المهرجان أقيم في “سرايا الجامعة المصرية”، وليس في “دار الأوبرا” (كما ذكرت الكزبري في مجلّد كتابها الأول، ص 240). وهذا وفق ما ذكر رئيس تحرير “المحروسة” آنذاك، سيد علي، في مطلع مقاله على كامل الصفحة الأولى لـ”المحروسة” (العدد الصادر في 26 نيسان 1913). فهذا المكان يؤشِّر بذاته إلى قماشة تلك البيئة الثقافية، التي لم تكتف بتدبير ذلك التكريم واحتضانه، بل أخذت بيد المرأة لتوقفها، للمرة الأولى، خطيبة جنباً إلى جنب مع الرجال. إنه أمر لم يحصل من قبل، لا في مصر ولا في دنيا العرب قاطبة، آنذاك.

رفض الورقة التي تُليت

من على هذه الإطلالة الباهرة، انتقلت ميّ إلى ابتكار “ندوة الثلثاء»، في منزل عائلتها بالقاهرة، محفلاً أدبياً فكرياً، ثقافياً بعامة، أَمَّه وتناقش فيه، كما هو معروف، أبرز كتّاب تلك الحقبة من أدباء وشعراء ومفكرين وفلاسفة. وكان لسان حالهم جميعاً يلهج بما أفصح عنه الشاعر القاضي اسماعيل صبري:

إن لم أُمتِّع بميِّ ناظريَّ غداً أنكرْتُ صُبحَكَ يا يوم الثلاثاءِ

بالتأكيد، اغتبطتْ ميّ بهذا البيت من الشعر. بيد أنها تيقّنتْ، على ما أحسب، من سلامة قرارها الذي اتخذته في 3 شباط 1911 باطِّراح ألف ماري ورائها. هي لم تكن بغافلة، بعد مرور أربع سنوات على إقامتها في مصر، عن طبيعة الأحزاب والتجمّعات والمنابر السياسية الفاعلة آنذاك. لقد عاينتْ كيف جرى إحياء ذكرى مرور أربعين يوماً، على وفاة قاسم أمين في العام 1908، باحتفالين متناقضين تماماً في القاهرة: احتفال تحدّث فيه كل من أحمد لطفي السيد، وحافظ ابرهيم الذي ألقى قصيدته الشهيرة “مَن لي بتربية النساء فإنها…”، وآخرون من دعاة تحرير المرأة. أمّا الإحتفال المعاكس، فكان للذمّ بقاسم أمين ورجم آرائه وأطروحاته بوجوب تحرّر المرأة. في مقدم المتحدّثين كان عبد العزيز الجاويش، رفيق مصطفى كامل، ورئيس تحرير جريدة “اللواء” وداعية ما سمّاه “البعث الإسلامي”، وتلميذ جمال الدين الأفغاني الأقرب إليه من محمد عبده.

عاينتْ ميّ كذلك – وفق ما كتبتْ في زاويتها “أصوات النساء” في جريدة “السياسة” الأسبوعية (1926) – حادثة مَنْع مَلَك حفني ناصف (باحثة البادية) من المشاركة في “المؤتمر الإسلامي” الذي كان انعقد في القاهرة في 1911، ورفض حضورها وورقتها ببنودها العشرة. وبعد أخذٍ وردّ وجدالات، لم يُسمح إلاّ بتلاوة ورقة “الباحثة”، إنَّما بلسان رجل. الحجّة في ذلك: “عدم جواز الخطابة للمرأة”. ثم كان أن أجمع المؤتمرون على رفض الورقة التي تُليت.

استغراب واستنكار

ميّ، الطالبة في “الجامعة المصرية”، لم يُثر استغرابها وجود أساتذة من المشايخ العلماء الأزهريين يحاضرون في هذه الجامعة. بل إنها ألقتْ كلمة في حفل تكريم أستاذَيها، الشيخ محمد الخُضري الذي كان يحاضر في “تاريخ الأمم الإسلامية”، والشيخ محمد مهدي المحاضر في تاريخ الآداب العربية. لكنها توقّفت، حكماً، من دون أن تُفصح، عند حملة شعواء شنّتها المرجعيات الأزهرية على اختيار جرجي زيدان (صاحب المجلة التي كان انتقى، بكل عناية مدروسة، “الهلال” إسماً لها في أواخر القرن التاسع عشر) أستاذاً محاضراً في دراسة التاريخ الإسلامي. وكان نشر، قبل ذلك، العديد من رواياته المعروفة بتوقّفها عند حقبات مفصلية في هذا التاريخ، فضلاً عن انكبابه، حينها، على إنجاز الجزء الرابع من كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”.

إلى المرجعيات الأزهرية، انضمّتْ منابر إسلامية متشدّدة أخرى في الصحافة، تُعرب عن استغرابها واستنكارها الشديدين تكليف مسيحي تدريس التمدن الإسلامي. ما يُؤسف له، حقاً، انخراط جريدة “المؤيد” للشيخ علي يوسف، الشخصية الفكرية والوطنية المرموقة، في شنّه الهجوم على قرار الجامعة.

إزاء هذه الحملة المنهجية، تراجعت “الجامعة المصرية”، واعتذرت من جرجي زيدان برسالة أرفقتها بمبلغ مئة جنيه تعويضاً عن فسخ العقد. في هذه الأجواء، أُثيرت ضجة كبرى نظّمتها المرجعيات الأزهرية إياها، تطالب المراجع الرسمية برفض السماح للطالب طه حسين بالانتقال من الأزهر إلى “الجامعة المصرية”. بعد فشلها في إبقائه قيد أسوارها، تعقّبته بحملة ثانية تطالب الرسميين المعنيين بأن تفرض على “الجامعة المصرية” عدم الموافقة على اختيار أبي العلاء المعرّي موضوع الأطروحة الذي كان توافق الطالب الأزهريّ سابقاً مع أكاديمييّ الجامعة عليه. استدعى الأمر، يومها، تدخّل ناظر المعارف، سعد زغلول، ما مكّن طه حسين من نيل إجازته الجامعية بأطروحته عن المعرّي، ومن إرساله لاحقاً إلى فرنسا لإعداد دكتوراه دولة.

ميّ اصطدمت بالجدار ذاته: فالقوى الدينية المتشدّدة تمكّنت من استصدار قرار رسمي بعدم قبول منصور فهمي (من روّاد ندوة الثلثاء) أستاذاً في “الجامعة المصرية”، بزعم أنّ أطروحته، “أحوال المرأة في الإسلام” التي نالها من “السوربون”، انطوت على ما يخالف الإسلام. هل تفاكهتْ ميّ مع منصور فهمي في هذا الشأن، عندما زارها، صيف 1938 في فريكة أمين الريحاني، بعد تبرئتها من تهمة الجنون، متمنيةً الإفراج المصري والعربي عن أطروحته، والاعتراف بسلامة عقله، وبحقّه في الاجتهاد؟

امتشاق الإسلام سيفاً

ألبرت ريحاني أخبرنا في كتابه “الريحاني ومعاصروه” أنّ منصور فهمي لم يتمكن من مقابلة ميّ. ولكن، يبدو لي، أن ميّ تأبّت استقباله من موقع استفظاعها صمت أصدقائها المصريين المُطبق عن اعتقالها في “العصفورية” اللبنانية، وغيابهم المخيّب عن المشاركة في المعركة المنهجية لإطلاق سراحها، التي كان بادر إليها الحداثيّ الطالع فؤاد حبيش، وتابعها ثلاث سنوات متتالية، في بيروت ومن مصر كذلك، من على صفحات مجلته الأسبوعية “المكشوف”.

كانت ميّ على دراية تامّة بتصاعد مناخ مغاير في مصر التي كانت ملاذاً آمناً لللبنانيين والسوريين الهاربين من البطش العثماني، الحميدي والطوراني. السمة الطاغية على تغيّر هذا المناخ، امتشاق الدين الإسلامي سيفاً سياسياً خلاّباً، ومضموناً جاهزاً للتحرر من الكولونيالية التي اختُزِلَتْ في “المسيحية الدين”. عبد الرحمن الكواكبي الذي كان لجأ إلى بيروت، متأبّطاً “شهباءه” من حلب ليتابع إصدارها في بيروت، سرعان ما وجد نفسه مجبراً على متابعة الفرار إلى مصر. لكن غيظ السلطان صرعه بالسمّ في قلب القاهرة، فور صدور كتابه “طبائع الإستبداد” العام 1903. فالمستبد – على قولة الكواكبي – يكره علوم العقل وينكّل بأصحابها، ولا يرتاح إلاّ إلى علوم النقل، ويشجّع على الإستغراق فيها.

حضور جمال الدين الأفغاني كان لا يزال هو الطاغي على صعيد الفكر السياسي بخاصة، حينما حطّتْ عائلة زيادة رحالها في القاهرة في العام 1907. وإن كان قد جرى ترحيله من مصر، فهو خلّف زرعاً خصيباً أينعتْ ثماره في سياسات أحزاب كالحزب الوطني وغيره، واتخذ طابع رأي عام يرفع لواء “الجامعة الإسلامية”، وإنْ بأقرب تعبيراتها التي في متناول اليد: الجامعة العثمانية. أما المناخ المتغيّر، فانطوى على صراع راح يحتدم بين التيارات والأحزاب المصرية. في هذا السياق، كان أحمد لطفي السيد من العاملين بصورة شبه دورية، وغير معلنة، مع سعد زغلول وحفني ناصف وعبد العزيز فهمي. عن لسانه، ينقل عبد اللطيف حمزة في الجزء السادس من كتابه “أدب المقالة الصحافية في مصر”: “أن أ. ل. السيد التقى في أحد مقاهي الآستانة، في العام 1893، بسعد زغلول، والشيخ علي يوسف، وحفني ناصف، وقاسم أمين، وقد تأهبوا لزيارة جمال الدين الأفغاني، فصحبتهم إلى منزله […] ولم أكن قد اجتمعتُ به من قبل”. يضيف عبد اللطيف حمزة: “إن اللقاءات المتعددة التي عقدتها هذه المجموعة مع الأفغاني لم تقنع هؤلاء بتبنّي “الجامعة الإسلامية”، بل قالوا بـ الجامعة المصرية”. على هذه المقولة تكوّنتْ مجموعة صحيفة “الجريدة” التي أصدرها أ. ل. السيد، وعليها أيضاً تأسس لاحقاً “حزب الأمة”، حزب الليبيرالية العقلانية المنفتحة. اللافت هنا، أنّ أ. ل. السيد الذي لُقّب لاحقاً بـ”أستاذ الجيل”، وعُرف بكونه ناقل أرسطو إلى العربية، ظلّ متمسكا،ً وعن حق، بتعريب المذهب الليبيرالي بـ”المذهب الحُرّي” وبتسمية الليبيراليين بالحريّين (علماً بأنّه أخذها عن رفاعة الطهطاوي). مقابل دعاة الجامعة العثمانية، وأبرزهم حينها مصطفى كامل، امتشقت “الجريدة” شعار الجامعة المصرية. في واحدة من افتتاحياته، “عليكم بأنفسكم” كتب أ. ل. السيد: “… من غير الصواب أن يعمل بعضنا لفناء شخصية المصري في شخصية العثماني… بدلاً من ذلك كله يجب على الكاتبين أن ينتهزوا الفرصة لينشروا في الأمة عقيدة الاستقلال… متى نقتنع أننا مصريون قبل كل شيء؟” (“الجريدة” 7 أيلول 1909).

 “بسم الله الرحمن الرحيم”

في 2 كانون الأول 1902، أوضح أ. ل. السيد: “إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد الوطنية المصرية، والاحتفاظ بها… لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يُسمّى بـ”الجامعة الإسلامية”، تلك الجامعة التي يوسّع بعضهم معناها فيُدخِل فيه أن مصر وطن لكل مسلم”.

في خضمّ تلك الاصطراعات السياسية الحادة، التي جرى إنزال الدين الإسلامي إلى ساحتها، قُيِّضَ لجريدة “المحروسة” أن تسلك، في مطلع 1914، انعطافاً جذرياً: فبعد أن كان غادرها رئيس تحريرها الأول، الشيخ ابرهيم الحوراني لدواعي العمر في 1910، وليتولى بعده مسؤولية هذا الموقع الحساس الكاتب سيد علي، طوال الأعوام 1911 و1912 و1913، ظهر اسم فرح أنطون – أجل فرح أنطون لا أحد غيره – رئيساً لتحرير “المحروسة” طوال ثماني سنوات متتالية صاغت، بحق، عهد “المحروسة” الذهبي.

في 17 كانون الثاني 1914، وبصياغة ذكية، دانت ميّ في مقالها “تمثال مصطفى باشا كامل”، تلكّؤ الحكومة وعدم تنفيذها إقامة النصب. وهي بهذا سبقت فرح أنطون الذي كتب في الموضوع ذاته في 11 شباط 1914، في مناسبة ما سمّاه “يوم تذكار مصطفى كامل”: “لِمَ لا يكون لمن بقي من الرجال النافعين يوم تذكار؟”، مستذكراً محمد عبده، قاسم أمين، علي مبارك، إبرهيم اليازجي وغيرهم. هذه النظرة الموضوعية المسؤولة، إلى القضايا تظهّر معدن كلٍّ من هذين العلمَين اللذين يعملان من أجل “أكل العنب لا لقتل الناطور».

الموقع والدور اللذان محضهما فرح أنطون في افتتاحياته بخاصة، لا يقلان أهمية عن نضج نقاشاته الفكرية والفلسفية في مجلته “الجامعة” مع الإمام محمد عبده. ولا عن كتاباته الرائدة بدعوته المبكرة إلى العلمانية القائلة بفصل الدين عن الدولة (هذا قبل أن يقرّها البرلمان الفرنسي بسنوات معدودة)، ولا عن انتباهاته الفلسفية العقلانية عند ابن رشد.

إبّان ثورة 1919، “أيام فلتحيا، فلتسقط”، بحسب تعبير ميّ عن الإعتصابات (الإضرابات والتظاهرات) كانت “محروستهما” تتعرض للرقابة المشدّدة: أسطر بكاملها يحذفها البياض. جمل تختفي منها كلمات كي يختفي قولها. أحيانا، لا يتبقى من الإفتتاحية إلا الفراغ، وإسم فرح أنطون بقلمه الأخرس.

وصل الغيظ من مواقف “المحروسة” تجاه الحوادث، التاريخية الأبعاد، إلى حد التهديد المباشر بإسكاتها إن لم ترعوِ. وهذا ما حصل في العام 1920: عبد الرحمن فهمي يبلغ سعد زغلول بالمراسلة أنّ “زعانف (أزلام) الحزب الوطني، وللشوشرة على مفاوضاتكم تحرّشوا بـ”المحروسة”. غير أن “المحروسة” لم ترعوِ. افتتاحيات فرح أنطون الملتهبة لم تتوقف. وفي 12 كانون الثاني عنونت المانشيت: “إنتصار عدلي باشا على سعد باشا”، وليكون عنوان مقالة أنطون: “إجماع أمة يتغلب عليه فرد”. وفي 14 كانون الثاني 1921، كان عنوان افتتاحيته: “كونوا كبار النفوس قبل أن تكونوا كبار المناصب”، حذّر فيها من الموافقة على الإقتراحات الإنكليزية الداعية إلى تسوية اعتبرها مريبة، مشدداً على وجوب رفض التنازلات.

أما في شباط 1921 فوقعت الواقعة: “بسم الله الرحمن الرحيم” هي مانشيت العدد، عدد احتلال “المحروسة”. اختفى اسم الياس زيادة صاحب “المحروسة” ومديرها المسؤول. ومعه تبخّر اسم فرح أنطون رئيس التحرير. وبدل الإسمين سطع، في 23 شباط، اسم واحد أوحد، عبد الحميد حمدي رئيساً للتحرير والمدير المسؤول في آن واحد. معظم مساحة الصفحة الأولى كان بمثابة افتتاحية كتبها عبد الحميد حمدي، وجملتها الأولى تقول: “باسم مصر أتولى تحرير هذه الصحيفة لخدمة مصر”. ما تبقّى من هذه الصفحة أخبار متفرقة لا تتناول إلا أوضاع الإسلام والمسلمين في بلدان آسيوية. ولم يفته جذب انتباه القرّاء معلناً: “توزّع المحروسة اليوم على القراء مجّاناً. وقد أردنا بذلك أن يطّلع من شاء على سياسة هذه الصحيفة اليوم”. الطريف أن هذا العدد أبقى في صفحاته الداخلية بعض المواد التى كانت معدّة أصلاً ومنها مقال للكاتبة عفيفة كرم بعنوان “أثر المرأة فوق ضريح امرأة”، عن ميّ زيادة في كتابها عن “باحثة البادية”.

بعد مضي أيام ثلاثة، صدر عدد “المحروسة” (في 24 شباط 1921) معاوداً ظهور اسم الياس زيادة بصفته صاحب الجريدة إنّما من دون أن يُسمّى مديرها المسؤول. أمّا اسم عبد الحميد حمدي فظهر باستمرار رئيساً للتحرير المسؤول. لم يختف هذا الإسم إلّا في 7 آذار 1921 مع استعادة فرح أنطون موقع رئيس التحرير.

عودة إسم الياس زيادة إلى الظهور مجدداً، لم تستغرق أكثر من يومين (في 23 شباط 1921). لكن عودة إسم فرح أنطون رئيساً للتحرير، استغرقت خمسة عشر يوماً (7 آذار 1921). ومع عودته اختفى إسم عبد الحميد حمدي. فما الذي جرى؟ من قرّر احتلال “المحروسة”؟ بين مَن ومَن كان التفاوض من أجل عودتها إلى أصحابها وأركانها؟ مقابل ماذا؟

يتهيأ لي أنّ المستهدف الأول بهذه الغارة رئيس تحريرها وقلم افتتاحياتها فرح أنطون الذي كان، باستقلالية فكره، يكتب سياسة “المحروسة”: سياسة واصلت الإنتقاد، بالتصريح وبالتلميح، لأي موقف يتخذه أيُّ كان، منطوياً على تقديم التنازلات في مجرى التفاوض مع سلطة الإحتلال. هو من سعى إلى أن تكون “المحروسة” ولّادة رأي عام وطني مستنير عقلاني جامع، لا ديني عصبوي مُفرِّق.

فرح أنطون “مش حبتين” ليُصار إلى طمس حضوره. لقد سعيتُ إلى إيجاد ما من شأنه أن يسوّغ عدم إتيان الراحلة س. ح. الكزبري على ذكر فرح أنطون في سِفْرها المهمّ، فلم أُوفق. بل وجدتها تخصص صفحتين في المجلّد الأول من كتابها (ص141 وص140)، لتخبر أنّ ميّ استقدمت سلامة موسى للإشراف على “المحروسة”، “بتكليف من الياس زيادة وابنته ميّ”. الأمر ذاته كذلك بالنسبة إلى الباحث جوزف زيدان، والباحثة الألمانية أنيتا زيغلر، اللذين لم يتوقفا بكلمة عند علاقة فرح أنطون بـ”المحروسة”. ولا بالطبع عند حادثة احتلالها على أيدي إسلاميين فعليين، أو متنكرين بعباءة الإسلام لغاية في نفس يعقوب تضيق ذرعاً بفكر كاتب افتتاحيات “المحروسة” النقدي.

“شو عدى مما بدا؟”

أمّا ميّ، فلم تجد من موضوع لمقالها، بعد فك أسر “المحروسة”، سوى لفت قرّائها إلى كتاب الدكتور نظمي في أمراض الأطفال، مستذكرةً في أسطره، حادثة وفاة أخيها الياس الصغير. “شو عدى مما بدا؟”. تساؤل مشروع في صدد الدوافع التي صرفتْ ميّ عن التوقف عند الصفعة القاسية التي تلقّتها “المحروسة”. آثرتْ الإعتصام بالصمت.

بيد أنّ مقالاتها أخذت بالظهور في صفحة “الأهرام” الأولى، بصورة متقطعة في البداية، لتتحوّل لاحقاً إلى ما يشبه الإفتتاحيات الأسبوعية المتّسمة بشواغل فكرية سياسية مجتمعية معمّقة، تخاطب عقول القرّاء في تفكّر المشكلات والمسائل التي تعترض الإرتقاء بأوضاعهم. أمّا فرح أنطون فلم يُعلّق بكلمة واحدة منشورة على الصفعة. لكن صرير قلمه ظلّ يهجس بجريدته مشكالاً لانتظارات الحداثة، سياسةً وثقافةً بعامة. ودائما بحرية. فعاجلته حكومة عدلي ثروت باشا بإسكات محروسته سنة كاملة، طوال العام 1922 الذي فيه توفي. ولتستأنف صدورها في العام 1923، برئيس تحرير جديد لم يكن غير أحمد حافظ عوض، السعديّ الصميم!

أمّا ميّ، في صفحة “الأهرام” الأولى، فتابعت إشراقاتها بصورة دورية منتظمة، حتى بعد وفاة صديقها اللبناني (1933) داود بركات، رئيس تحرير “الأهرام” والمفكر السياسي النيّر، والشخصية المرموقة في تاريخ مصر الحديث، وكاتب الإفتتاحيات المتميزة بدقة تحليلها وبعد نظرها، التي باتَتْ مضرب مثل.

غير أنّ ميّ اصطدمت شخصياً، هذه المرة، بالجدار ذاته يطبق عليها: ففي مستهل صيف العام 1935، أُحِلَّتْ عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) محل ميّ زيادة في صفحة “الأهرام” الأولى. هو إعلان صارخ بالإستغناء عن ميّ وشطبها من الوجود، لا من “الأهرام” وحسب. لكأنه انقلاب في مناخ مصر العام، لا مجرّد تبدّل. هذا ما عناه استبدال ميّ بعائشة عبد الرحمن، المعروفة باستغراقها في الثقافة التراثية الإسلامية. ما يؤسف له أنّ أحداً من مؤلّفي الكتب الغزيرة لم ينتبه إلى هذه الواقعة، باستثناء الباحثة الجادّة أنيتا زيغلر، متوقفةً في مقدمة كتابها عند تداعياتها الموجعة على ميّ.

قالت بنت الشاطئ في كتابها المعنون بـ”على الجسر بين الحياة والموت- سيرة ذاتية” (منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، طبعة 1986): “… وكان لي في جريدة “الأهرام” مكتبي الخاص في غرفة رئيس التحرير أنطون الجميل حيث ملتقى الأقطاب من رجال السياسة وأعلام الفكر والأدب[….] “وكانت صلتي بجريدة “الأهرام” قد بدأت في مستهلّ الصيف الذي مضى (في العام 1935) بمقالي الأول عن فلاحنا المظلوم. ثم تتابعت مقالاتي عن الريف على مدى ذاك العام[….]. وكان هدفها – كتبت بنت الشاطئ- “أن أكشف زيف المدينة وخواءها وأمزّق الأقنعة عن وجهها القبيح وروحها الهامدة” (ص 107 من كتابها).

إنّ من تسنّى، أو يتسنّى له، الإطّلاع على نصوص ميّ زيادة التي نُشرت في كلٍّ من كتابَي الباحثين جوزي=ف زيدان وأنيتا زيغلر (وهي مادة بالغة الأهمية فضلاً عن تلك التي نشرتها ميّ كُتباً أيام حياتها)، سيلمس بأمّ العين والعقل، الفارق النوعي الجذري بين كاتبة وكاتبة. بين هموم هذه وهموم تلك. بين الإنخراط في مسار التغيير، تحّرراً وعلماً ومعرفة وتربية وثقافة وإجتماعاً، مدينةً وريفاً، أو الإنكفاء بالجغرافيا المجتمعية المصرية إلى ما قبل التاريخ أو إلى خارجه: تشبّث بعلوم النقل بتكفير علوم العقل أو باطّراحها.

لا أحسب أنّ ميّ قد فوجئت بهذا العزل، وهي التي كانت أُكرهت على الصمت في محروستها، متنبهة لمغزى احتلال “المحروسة” المراد في 21 تشرين الثاني 1921. مثلما كانت “المحروسة” قد أُكرهت، هي الأخرى، على تجنب التوقف الذي كان يستحقه كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” الذي صدر في العام 1924. وهو الكتاب الذي خاض في إثبات أن الإسلام دين وليس دولة. فاكتفتْ يومها، بإعلان صدور هذا الكتاب بتسعة أسطر لا غير. أمّا في إزاء الهزة التي واجهت صدور كتاب صديق ميّ، طه حسين (“في الشعر الجاهلي”، 1926)، والحملة الشعواء عليه وإحالته على المحاكمة، فالإدانة ليست من المرجعية الأزهرية وحسب، بل كذلك من القضاء الرسمي في مصر، فلم تنبس “المحروسة” بحرف واحد. وهي، ميّ، تدرك تماماً فظاعة هذا الحدث المهول بدلالاته الإرهابية. بل إنها لم تجرؤ حتى على إيراد مجرّد خبر عن صدور هذا الكتاب المفصليّ، والتاريخي الأبعاد في الثقافة العربية يومها، وفي حاضرنا الراهن بالأخص.

إلاّ في الكتابة

بعيد احتلال “المحروسة” الإسلامي في شباط 1921، غامرتْ ميّ، في العام 1922، بالتساؤل العلني “أين وطني؟”، وقالت فيه: “… فهؤلاء يقولون: “أنتِ لست منّا لأنك من طائفة أخرى، ويقول أولئك: “أنتِ لست منّا لأنك من جنس آخر”. فلماذا أكون، دون سواي، تلك التي لا وطن لها؟. وُلدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمّي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأيّ هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟”.

أمّا بعد دفنها في “المقابر المسيحية” في القاهرة القديمة فوقف طه حسين يؤبّنها في الذكرى الأربعين لرحيلها بثلاثة أبيات من الشعر:

خليليَّ عُدّا حاجتي من هواكما ومن ذا يواسي النفس إلاّ خليلها

ألمّا بميّ قبل أن تطرح النوى بنا مطرحاً، أو قبل أن يزيلها

فإنْ لا يكن إلاّ تعللُ ساعةٍ قليلاً، فإني نافعٌ لي قليلها

بهذه الأبيات التي كان ينشدها كلّما التقى ميّ (ولم يقل، لا صراحة ولا إيحاء، إنها من نظمه)، يعيدنا “عميد الأدب العربي الحديث” بحق، إلى البداية، إلى مسألة الإسم، ميّ. لكأنه يؤكد وجوده وتداوله في اللغة العربية في أزمنتها الأولى، وإنْ بصيغة اقتباس عن لفظ غير ذي أصل عربي.

“وإنَّما اللّغة البلاد” على قولة خليل مطران الذي بزغت شمس ميّ في احتفال تكريمه. أمّا سليم سركيس، فمهندس ذلك التكريم، ولا سيما مبادرته، هو ولا أحد غيره، إلى إطلاق ميّ، من على منبرٍ كان وقفاً وحكراً على الذكور.

ميّ لم تجد الحرية التي رأت إليها غريزةً إلاّ في الكتابة. أمّا وطنها فلم تعثر عليه إلاّ في الكتابة.

اضف رد