22-06-2022 | 00:30 المصدر: “النهار”


تعبيرية (نبيل إسماعيل).
تعكس الواقعة المفجعة الجديدة لوفاة طفلة بعد جولة استجداء قاتلة على عدد من المستشفيات الشمالية قبل أيام، النموذج الأشدّ صدماً لما آل إليه الواقع الاجتماعي لبلد ظلّ حتى الأمس القريب يحتفظ بالحدود الدنيا من متطلبات الكرامة الإنسانية وإذا به اليوم يسابق أسوأ نماذج الدول الفاشلة في بلوغ هذا المصير المأسوي. ولعل أسوأ الأسوأ في ما تدرّج إليه واقع الانهيار في لبنان أن الوقائع المتصلة بمعاناة الناس ويوميات البؤس موتاً أو قتلاً أو تسبباً بالوفاة جراء تفشي الانحلال والتفتت وانعدام كل ما يمت بصلة الى ما كان يسمّى دولة، أن ذلك لم يعد يحدث أيّ ردود فعل أو يثير ما يمكن أن يشكل روادع تفرمل هذه الدوامة القاتلة من الموت المجاني الذي صار اللبنانيون يتعاملون معه من موقع التكيّف كأن الموت لاستحالة الاستشفاء أو لتعذر الحصول على الدواء أو بسبب سرقة مسلحة أو جراء أيّ سبب آخر من ألف سبب يواجهها الناس يومياً صار كما كان انهمار القذائف في الحرب من “يوميات الحياة”!
بطبيعة الحال كان يمكن تسويغ هذا النوع من “التكيّف” في زمن الحرب لأنه لا مهرب أمام الناس، إلا في حالات الهجرة، من أن يقيموا أنظمة حياة على إيقاع أخطار الموت المحدق بهم في كل لحظة. أما أن يغدو لبنان على هذه الصورة التي تفوق أي خيال وتصوّر من التدهور الشامل في النظم الإنسانية وبعد أكثر من ثلاثة عقود من نهاية الحرب فإنها تغدو أولوية لا نظن أن كل ما تصاعد ويتصاعد من المشهد السياسي الداخلي البادئ منذ معركة الانتخابات النيابية وصولاً الى الاستحقاق الحكومي الراهن ينبئ بأن تغييراً حقيقياً طرأ ومن شأنه أن يعطي هذه المسألة الأكثر خطورة في الواقع الانهياري الأحقية والأهلية اللازمة لمواجهتها بما يجب.
ندرك أن سلطة أسيرة رهينة أو حليفة متواطئة مع السلاح غير الشرعي تستسلم صمتاً وخنوعاً أو تواطؤاً مع “حزب الله” في صمتها المخزي أمام حكم يحمل كل الطابع الاستثنائي التاريخي تصدره المحكمة الخاصة بلبنان في ملفّ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولكن هذه السلطة تنزلق الى قعر أشدّ سوءاً وسواداً وهي تتعرّض للعنة اللعنات التاريخية بكل المعايير حين تتفرج منذ سنوات ثلاث على لبنانيين يُقتلون غيلة بسبب تعذر الاستشفاء واستحالة توفير الظروف الإنسانية الأقل من بديهية في أي ظرف من ظروف المعاناة التي يجتازها لبنان. مع كل الحاصل على أيدي عتاة هؤلاء “الأقوياء” الميامين تراهم يتحدثون كأن أيديهم نقيّة نظيفة طاهرة وضمائرهم صافية مرتاحة وكأنهم في بلد لم تسحقه أفضالهم التاريخية وتودي به الى حيث لا قعر تحت ذاك القعر. يغرقون الآن، قبيل الساعات الأخيرة من استحقاق التكليف والتأليف، حتى الذروة في إسباغ الدروس على اللبنانيين حول ما يصحّ ولا يصحّ في الخيارات المطروحة لحكومة لا ندري ماذا يخبَّأ لها في حقل الألغام المنتصب بين موعد يصعب التكهّن به لولادتها، إذا ولدت، وموعد نهاية العهد الأسوأ في تاريخ لبنان. سيمضي استحقاق سياسي دستوري ويأتي آخر وآخر وإنسان هذا البلد وكارثته لن يأتي دوره ما دام لن يتطهّر من إرث هذه السلطة المحميّة في قلب الدولة العميقة العفنة حتى أمد طويل. إنها “ثقافة” متوحشة تستوطن فكراً سلطوياً عفناً لا عمق إنسانياً لديه ولا يستشعر شيئاً عن محرقة الناس، لا أكثر ولا أقلّ.