مروان اسكندر
النهار
2042018
منذ اوائل السبعينات وتعليق العمل بنظام تحويل الدولارات الى أونصات ذهب بقيمة 35 دولارًا للأونصة والذي كان التزامًا من الولايات المتحدة وفرته بعد الحرب العالمية الثانية، وبدء العمل بنظام مالي دولي وضعت تفاصيله في قرية “برتون وودز” بالولايات المتحدة عام 1944، ضَمَنَ النظام سيطرة الولايات المتحدة وبريطانيا على قرارات صندوق النقد الدولي نتيجة امتناع الدولتين معاً عن استخدام حق “الفيتو”، وقد حصر اختيار رئيس البنك الدولي – الذي كان يسمى البنك الدولي لإعادة الاعمار والتنمية قياسًا بالحاجات المتوقعة لاعادة اعمار الدول الاوروبية بعد انتهاء الحرب – برئيس الولايات المتحدة.
واتفاقات بريتون وودز كرست الدولار العملة الرئيسية للتداول التجاري والاستثماري الدولي. فالولايات المتحدة، كانت بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمة اليابان والمانيا، البلد الصناعي الوحيد القادر على تصدير آلات الانتاج الصناعي وكميات النفط المطلوبة لتحريك اقتصادات اوروبا واليابان، وتأمين القروض الطويلة الامد، وتصدير السيارات والقاطرات وشبكات الهاتف الخ.
بعد تعليق التزام تسليم الذهب الى كل بلد يحقق فوائض بالدولار اوائل السبعينات، استمر الدولار في سيطرته على حركة تمويل التجارة العالمية، وان تكن بدأت تذبذبات اسعار العملات. واصبحت عمليات الصرف بين العملات محررة بين غالبية الدول الصناعية منذ أواسط الثمانينات، ولم يكن هنالك تحد اساسي للدولار قبل استكمال اتفاق الوحدة الاوروبية التي شملت اعتماد عملة موحدة هي الاورو والتي سعرت ازاء الدولار بحسب سعر صرف المارك ازاء الدولار حينما اصبحت العملة الاوروبية متداولة في الاول من كانون الثاني 1999.
اراد الاوروبيون الابتعاد عن تحدي سيطرة الدولار، خصوصاً ان بريطانيا امتنعت عن الانضمام الى وحدة النقد الاوروبية بناء على طلب الولايات المتحدة، أما اليابان التي اصبحت ثالث بلد قياسًا بحجم صادراتها أواسط الثمانينات بعد المانيا والولايات المتحدة، فلم تنشط على صعيد مواجهة الدولار في أي وقت، وان هي حافظت على شروط صعبة لاستقبال الاستثمارات الخارجية الكبيرة خصوصاً من الولايات المتحدة.
وشهدت السنوات الـ25 المنقضية تطور الصين بسرعة تجاوزت معدلات نمو البلدان الصناعية الغربية، واصبحت الصين عام 2017 الدولة الاولى عالميًا على صعيد الصادرات. ومن الواضح ان الصين حققت أيضًا اختراقات ملحوظة في تملك اسهم شركات تقنية أميركية وفي تصنيع الهواتف الذكية وشبكاتها وفي اختراق الاجواء بالصواريخ المتطورة، ولدى الصين اليوم بسكانها البالغ عددهم 1.2 مليار نسمة 4.5 ملايين خبير تكنولوجي وقدرات انتاجية في مجالات التكنولوجيا المتطورة تحاكي الانجازات الغربية أكانت أوروبية أم أميركية.
وتحكم الصينيون في السنوات الاخيرة بسعر صرف عملتهم، وفي رأي الاميركيين ان سعر اليوان كان دون قيمته الحقيقية، وتوجه الصينيون الى توسيع الاعتماد على عملتهم دوليًا، واصبح من العملات الرئيسية لتمويل حقوق السحب الخاصة لدى صندوق النقد الدولي وتوسع دور العملة الصينية في التجارة العالمية لتغطي نسبة 9 في المئة من العمليات مقابل 63 في المئة لا تزال مقيدة بالدولار.
العملة الاوروبية احتلت المركز الثاني في التعامل الدولي وهذا أمر يعود الى تبادل دول الاتحاد الاوروبي المنتجات على اختلاف انواعها (باستثناء بعض المنتجات الزراعية التي تحظى بدعم من السوق) بالأورو، وحجم تجارة دول الاتحاد الاوروبي يفوق حجم تجارة الولايات المتحدة، والمانيا، البلد الاكبر في الاتحاد، والدولة الاوروبية التي حافظت على معدل مخفوض للبطالة، هي اليوم ثاني اكبر مصدر في العالم، وقد باتت تحتل بعد الصين الموقع الثاني قبل الولايات المتحدة.
العام المنصرم كان الأوّل منذ سنوات يتراجع فيه دور الدولار في تمويل التجارة العالمية بنسبة 2 في المئة، وهذه النسبة حازت غالبيتها الصين، وطرح الرئيس الصيني تصوره لما سمي طريق الحرير الذي يمتد برًا عبر باكستان، وأذربيجان، وتركيا الى البلدان الاوروبية، وبحرًا يمتد هذا الطريق الذي خصصت الصين لتطويره تريليون دولار (الف مليون دولار) الى جنوب وغرب افريقيا ومن ثم شمال افريقيا وبلدان البحر المتوسط.
تبدو الصورة كأنها خيالية، لكن الصين استحوذت حتى تاريخه على أكبر مركز لتجميع البضائع المصدرة أو المستوردة بدءاً في أذربيجان، وتملكت واحدًا من اكبر المرافئ في باكستان (ويلاحظ ان الصين تفادت الهند لان هنالك منافسة بين البلدين خصوصاً في مجالات الصناعات الالكترونية)، كما تملكت مرفأ بيريس في اليونان، وواحدًا من المرافئ الرئيسية في الخليج، في حين يبدي الصينيون اهتمامًا بمرفأ طرابلس الذي يمكن ان يستقبل 1.6 مليون مستوعب سنويًا بعد توسيعه خلال سنة.
ان المهم في طريق الحرير انه يوسع نطاق علاقات الصين مع دول يبلغ حجم أعمالها 35 في المئة من الاقتصاد العالمي، ومن المؤكد أن طريق الحرير لن يكتمل قبل 10 سنين. والرئيس الصيني الذي مددت ولايته مدى الحياة لم يتجاوز عقد الخمسينات ويأمل كثيرون من شعبه وشعوب بلدان امتداد طريق الحرير في أن يستمر في موقعه عقوداً.
استطاع الاميركيون والبريطانيون المحافظة على التعامل بالدولار بعد ابتكار ما سمي “الدولار الاوروبي” أي الاصدارات وتسهيلات التمويل الكبرى بالدولار لدى المصارف الاستثمارية الاميركية التي تمركزت في سوق لندن، وحققت احتكارًا لعمليات التأمين، وكانت عمليات سوق لندن ونيويورك المالية والتي شكلت 75 في المئة من العمليات عالميًا القاعدة الرئيسية للمحافظة على دور الدولار.
أزمة عام 2008 التي لا تزال مستمرة اصابت الدولار بضرر ملحوظ، ومن أجل التغلب على هذا الواقع، أصدرت تشريعات لضبط العمليات المالية ضيقت الى حد بعيد على المصارف الاوروبية والشرق الاوسطية. وعلى رغم اصدار توصيات من السوق الاوروبية بضبط الاسواق، ومن السلطات الاميركية، عمدت السلطات الاميركية الى تجميد مفعول شروط الانضباط واصبحت عمليات فتح الحسابات مع المصارف الاميركية اسهل بكثير مما هي مع المصارف السويسرية والالمانية والفرنسية والاسبانية وبالتأكيد اللبنانية.
تسببت هذه الممارسة في تحويل مليارات الدولارات الى المصارف الاميركية واصبحت السيطرة التي كانت تمارس من خلال اعتماد الدولار عملة رئيسية للمبادلات التجارية تمارس من طريق تجميع النسبة الكبرى من الدولارات في المصارف الاميركية، وهذه السياسة في رأينا ستؤخر الى حد ما توسع استعمال العملة الصينية والاورو، لكن الدولار لم يعد عملة القياس والادخار عالميًا. والاميركيون يواجهون مشكلة تتمثل في حيازة الصين 1.6 تريليون دولار غالبيتها موظفة في سندات الحكومة الاميركية، وتالياً تستطيع الصين ممارسة ضغوط كبيرة على الدولار، خصوصاً بعدما اصبح مخزونها من الذهب من الاكبر في العالم، وهنالك توجه للعودة الى اعتماد نظام تسعير العملات استنادًا الى مخزون الذهب المتوافر للبلدان المعنية.