هوفيك حبشيان
30062018
النهار
استعادة لأفلام رندة الشهال في “متروبوليس”.
بدءاً من الإثنين الماضي، يحتضن مجمّع “متروبوليس” استعادة مخصصة للمخرجة اللبنانية رندة الشهال تستمر إلى الأحد المقبل. بعد عشر سنين على رحيلها إثر إصابتها بسرطان وهي في الخامسة والخمسين، يُتاح للجمهور اكتشاف أو إعادة اكتشاف أعمال سينمائية (١٩٥٣ – ٢٠٠٨) شهدت على مرحلة مأسوية من تاريخ لبنان.
أكثر من ٢٠ استعادة شهدتها السينما البيروتية الصغيرة منذ تأسيسها، الا ان هذا الحدث يقع هذه المرة في إطار شيء أهم وأكثر طموحاً: الإعلان عن إطلاق مشروع “سينماتيك بيروت”لحفظ الإرث السينمائي في لبنان، هذا الإرث المهدد بالإندثار في دولة تحكمها العشوائية والإهمال.
افتُتحت الإستعادة بـ”متحضّرات” (١٩٩٩) الذي منعته الرقابة يومذاك، قبل ان تطلب حذف نحو نصف مدته. على مدة ٧ أيام، تُعرض كلّ الأفلام الروائية والوثائقية، الطويلة والقصيرة التي أنجزتها الشهال، منها “سهى، إرادة الحياة” و”المخادعون” و”حروبنا الطائشة” و”طيارة من ورق” و”لبنان أيّام زمان”.
كانت الشهال عروبية حتى العظم، قلبها ينبض بقضايا الأمّة: لبنان، فلسطين، العراق… تحاول الا تكون في موقع الضحية، بل ان تقاوم الإحتلال للإنسان، جسداً وعقلاً، مهما كان شكله. أكثر ما كان يغضبها في علاقتها بالغرب، تلك النظرة المنمطة حيال العرب، مع اعترافها اننا نحن المسؤولون عن ذلك، لأننا لا نفعل شيئاً لتحسين صورتنا في العالم. في مقابلة لي معها، قالت: “أنا أصوّر وأحرّك الكاميرا من اليمين إلى اليسار لا العكس، تماماً مثل الكتابة العربية. في أفلامي تجد دائماً أحداً يجتاز مساحة معينة وهي مساحة ممنوعة”.
بدأت تنخرط في السينما مع نهاية السبعينات. تتذكّر: “مع المصوّر روبي بريدي صوّرتُ كلّ ما وجدتُ على طريقي خلال الحرب. أهملتُ دراستي في فرنسا وعدتُ إلى لبنان وصرّحتُ لروبي برغبتي في تصوير شيء ما عن لبنان. في ذلك الوقت، كنّا لا نزال نصوّر بكاميرا ١٦ ملم، ولم يكن هناك ما يُسمّى فيديو. لم أكن أعرف ما هو الموضوع الذي أريد تصويره. وفيما كنّا نتسكّع في الشارع، أبلغنا أحد الأصدقاء عن وجود المخرج الألماني فولكر شلوندورف في لبنان لتصوير فيلم عن الحرب اللبنانية. فوجدتُ نفسي متورطة في تصوير فيلم وثائقي عن تصوير فيلم شلوندورف. كنت مهتمة لمعرفة ما يفعله فريق ألماني أتى لتصوير فيلم عن الحرب في وسط القتل والدمار. بدأتُ أطرح على نفسي سلسلة أسئلة فلسفية من نوع: ما معنى إنجاز فيلم في زمن القهر والحقد؟”.
أحلامها التغييرية التي جاءت بها من ستينات القرن الماضي، يوم كانت مراهقة، تكسّرت تدريجاً على أبواب الرقابات والاخفاقات والعلاقات المكلومة بينها وبين الجمهور. يجب القول انها كانت استفزازية في طرحها، مشاكسة في طبعها، متعنتة في اقتناعاتها، ولا ترحم عندما تدعو الحاجة إلى ذلك. لا تتوانى عن الرد على مقالة عنها نُشرت في صحيفة ولم يعجبها مضمونها. ولا تخاف من اعتماد مبدأ العين بالعين والسنّ بالسنّمع الرقابة اللبنانية التي منعت فيلمها “متحضّرات” بعدما أرادت حذف أكثر من نصفه، في إطار قضية شغلت الرأي العام اللبناني طوال العام ١٩٩٩، رفضت الشهال على إثرها تحريف السجال وتحويله إلى جدل في خصوص بعض الشتائم التي وردت فيه. ان الخلاف حول الفيلم في نظرها يتعلق بالنظرة إلى الحرب الأهلية: في حين انها كانت ترغب في تناول بشاعة الحرب سبيلاً لتجاوزها ومنع تكرارها، كانت الدولة تلجأ إلى سياسة النعامة.
فيلمها الروائي التالي، “طيارة من ورق” (٢٠٠٢)، يعتمد على لقطات شاعرية تنتمي إلى الفن السابع في خصائصه الاستيتيكية. صوّرته الشهّال في قرى هانئة ضمن التنوع الجغرافي للطبيعة اللبنانية. لكن الفيلم جاءحافلاً بالمغالطات، وبالنزق اللفظي والشخصيات التي ظلت ملامحها غير مكتملة. حاولت المخرجة اقتحام بيئة (الدروز الموحدون) لها “حرمتها” الشديدة وخصوصيتها الفريدة، لكنهابقيت سجينة في متاهات الخفّة وشحّ المخيلة.
كانت الشهال تقول كلمتها وتمشي. وتلوم مَن لا يحرّك ساكناً من العرب لتحرير فلسطين، متهمةً أميركا بتعميم ثقافة الفراغ من حولنا. ولكن، غالباً كانت مباشرة في معالجتها لمسائل شائكة. كمخرجة نظرت إلى هموم اللبناني باعتبارها ذات طابع جماعي لا فردي.
على غرار أغلب السينمائيين اللبنانيين، ظلت تجربة الشهال ناقصة. في اواخر العام ٢٠٠٥، عقدت مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه بدء استعدادها لتصوير “لسوء حظهم”، من إنتاج اللبناني الأميركي إيلي سماحة وتمثيل الإسبانية فيكتوريا أبريل والأميركي فال كيلمر واللبنانية هيفاء وهبي. إصابتها بالسرطانحالت دون تحقيق هذا المشروع الـ”هوليوودي”. جاء المشروع تأييداً لرغبتها في العبور إلى خارج الحدود التي عملت ضمنها سنوات طويلة، وخارج المناخ الثقافي الذي كانت فيه، وبعيداً من الجمهور النخبوي. أبدت رغبة حقيقية بالتواصل مع جمهور حجمه أكبر. بالنسبة إليها، كانت تلك خطوة مكمّلة لمسيرتها التي بدأت إبان الحرب الأهلية بأفلام وثائقية، من ثم أعمال روائية في مناخ مشابه. وكان بديهياً ان تفكّر في التوسع متفاديةً التكرار. بدأت تسأل نفسها: “إلى من أتوجه بأفلامي وأين موقعي؟”، معترفةً بأنها تعبت من الجمهور النخبوي وهو على الأرجح تعب منها”.
سينماتيك بيروت: لحفظ ما تبقى من الذاكرة…
“عندما نتحدّث عن سينماتيك، يتهيأ لنا أنه مكان أو مبنى هو عبارة عن معلم ثقافي، وطبعاً نفكّر في مؤسسة كبيرة وإمكانات أكبر وغالباً ما تكون مؤسسة عامة تابعة لوزارة الثقافة. ونتخيل كذلك أرشيفاً ونسخ أفلام قديمة، جيدة أو سيئة فنياً، إنما محمّلة بذاكرة وتاريخ ونوستالجيا لمرحلة عبرت. هذا التعريف صحيح. لكننا اليوم في صدد إفتتاح سينماتيك لا تملك أياً من تلك المواصفات! هل لأننا غير مدركين ما نفعل؟ بالعكس. نحن نعي تماماً إمكاناتنا المتواضعة، ونعي عدد المبادرات الخاصة التي ساهمت في السنين الماضية، خاصة في فترة ما بعد الحرب، وبشكل هائل بالرغم من إمكاناتها الشحيحة، في الحفاظ على ما تبقى من ذاكرتنا السينمائية. نحن لا ندعو إلى إستبدال تلك التجارب المهمة أو اختصارها أو تكرارها، من خلال مشروع سينماتيك بيروت. بالعكس تماماً. بل نحاول ان نوثّق هذه التجارب ونتعاون معها ونستفيد من خبرتها لنؤرخ الحاضر قبل الغوص في الماضي. وهذه هي تحديداً مهمة سينماتيك بيروت وهويتها، التي نريدها معاصرة ومتجددة وليست متحفاً للسينما. التفاتنا إلى الماضي هو أساساً لكي نتوجه إلى جمهور المستقبل من صانعي أفلام، نقاد، مؤرشفين ومؤرخين، باحثين وأكاديميين، هواة، طلاب سينما وغيرهم من المهتمين بالإرث الثقافي والسينمائي في لبنان. المشروع الذي نطلقه اليوم هو في مرحلته الأولى. أول شق منه هو استمرار طبيعي لمشروع أطلقه “متروبوليس” من ١٢ سنة وهو سلسلة من الإستعادات وعروض أفلام وبرمجة على مدار السنة يعود جزء أساسي منها إلى بداية القرن ويُعدّ اليوم من تحف الفنّ السابع. في هذا الاطار، إستعادة أفلام السينمائية الراحلة رندة الشهال، وهي مهمة جداً بالنسبة لنا، أتت من بعد أكثر من ٢٠ إستعادة قدّمها “متروبوليس” لمخرجين كبار عُرضت أفلامهم بنسخ مرممة معظمها ٣٥ مم. وسيتبع هذه الإستعادة عدد من الإستعادات التي بدأنا نحضّر لها لسينمائيين لبنانيين وعرب. النشاط الثاني لسينماتيك بيروت هو مجموعة من اللقاءات المصوّرة مع شخصيات أساسية في تاريخ السينما اللبنانية بدأناها بـ٥ مقابلات مع كلّ من منير معاصري وجورج نصر وعبودي أبو جودة وميشال هارون وحارث بسيل، وقررنا متابعة هذه السلسلة من اللقاءات المصوّرة مع سينمائيين وشخصيات ونقّاد ستكون متوفرة على موقعنا الجديد على الإنترت. أما المشروع الثالث لسينماتيك بيروت، فهو إفتراضي. قبل ان نبدأ عملية البحث عن أرشيف ونسخ أفلام معظمها ضاع للأسف، قررنا ان نقوم بإحصاء كامل لكلّ الإنتاج السينمائي اللبناني من أفلام قصيرة وطويلة، وثائقية وروائية وتحريك، أفلام تجريبية، أفلام طلاب، كتب حول السينما اللبنانية ومقالات، ولاحقاً نوسّع البحث ليشمل أفلاماً ومسلسلات تلفزيونية وأخرى تُعرض على الوب. كلّ هذه المعلومات حول الأفلام ستكون متوفرة على الإنترنت على قاعدة بيانات يمكن أي صانع أفلام ان يطلع على الصفحة الخاصة به والتأكد من معلوماته والتدقيق فيها. نتمنى ان تكون هذه القاعدة أداة مفيدة للتعريف بالسينما اللبنانية وصانعيها، بماضيها وحاضرها، وتكون قاعدة للبحث في مرحلة ثانية عن نسخ هذه الأفلام وأرشفتها وترميمها وحفظها في مكان يكون يستحق تسمية سينماتيك بيروت الذي نحن في صدد التحضير له”.
(هانية مروة، مؤسسة “متروبوليس” ومديرته)
للإطلاع على جدول عروض استعادة رندة الشهال:
https://www.metropoliscinema.net/page/home/