اخبار عاجلة
الرئيسية / أبحاث / أبحاث اقتصادية / استشراف المستقبل

استشراف المستقبل

مروان اسكندر
النهار
06102017

الرؤية الاستشرافية لمستقبل لبنان الاقتصادي المالي والاجتماعي يجب ان تنطلق من واقع الادارة السياسية العامة والاستهدافات على مستوى الاداء الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي ورعاية شؤون اللبنانيين العاديين في المقام الاول.

لا بد بداية من تبيان خصائص لها دور في قولبة الاقتصاد اللبناني ورسم معالم المستقبل.

يتميز لبنان بانه الدولة الوحيدة في العالم التي يعمل 30 في المئة من مواطنيها القادرين على العمل خارج لبنان، و25 في المئة من القادرين على العمل منتسبين الى القطاع العام في مختلف جوانبه والدولة تصدر 340 الف شيك شهريًا للموظفين العاملين والمتقاعدين في آن واحد.

النسبة الاخيرة المشاركة في العمل من مجمل الايدي العاملة في لبنان توازي 45 في المئة وبحسب تقديرات الدراسات الميدانية حول البطالة ربما نصف هؤلاء لا يعملون بانتظام.

ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اوائل السبعينات، كان لبنان يتحرك اقتصاديًا استنادًا الى توسع الحريات الاقتصادية، وتسهيل المعاملات، والاقبال على الاستثمار في لبنان، وانجاز مشاريع حيوية كخطوط النفط والمصافي، وكثافة تمثيل الشركات الاجنبية انطلاقًا من لبنان الى العالم العربي، وتأسيس مدارس الجاليات الاجنبية لتأمين العلم لعائلات العاملين في الخليج، فكانت مدرسة الجالية الاميركية، والالمانية واليابانية اضافة الى مدارس عدة للبرامج الفرنسية.

كان لبنان مثال المقصد للشركات الاجنبية الكبرى وممثليها ولرجال الاعمال المصريين، والسوريين، والعراقيين ممن تهجروا نتيجة الانقلابات العسكرية في البلدان المعنية وتبنيها السياسات الاشتراكية دون وعي حقيقي لأبعادها ومن ثم اخضاع الاقتصاد والمجتمع للاساليب البوليسية والقمعية.

لقد استفاد لبنان من مناخ الحريات الدينية والاجتماعية والثقافية والفنية واصبح بلدًا يستقبل وفوداً من سنغافورة وماليزيا، وحتى في الثمانينات وبعد اندلاع الحرب اللبنانية من دبي، وكانت الكويت من البلدان السباقة الى محاكاة الصحافة اللبنانية والنظام البرلماني والى حد ما النظام المصرفي في لبنان الخ.

نتيجة الحرب التي استعرت في لبنان والاتفاقات المتتالية لإيقاف النزاعات وآخرها اتفاق الدوحة توزعت المسؤوليات على الاحزاب السياسية والقادة السياسيين، ومناخ الحريات الاقتصادية لم يعد الجو السائد، والاقتصاد اللبناني في نشاطه الداخلي اصبح بالفعل اقتصاداً يتمحور حول القطاع العام ومؤسساته، فاذا احتسبنا دور بعض المؤسسات الكبرى نجد ان الاقتصاد اللبناني اصبح مرتكزًا على القطاع العام وتفرعاته والامثلة على ذلك كثيرة:

– مجلس الانماء والاعمار، بلدية بيروت، الجامعة اللبنانية، مؤسسة كهرباء لبنان، هيئة الاسواق المالية، طيران الشرق الاوسط، الكازينو، مديرية الطيران المدني، المصافي، مجلس الجنوب، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مصرف لبنان، مؤسسة ضمان الودائع، شركة انترا للاستثمار، بنك الاسكان، بنك التمويل، مصالح المياه المختلفة، تشغيل الهاتف الخليوي نظريًا، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، تعاونيات الموظفين والعسكريين الخ، هيئة ادارة شؤون النفط، المشروع الاخضر، لجنة المرئي والمسموع، تلفزيون لبنان.

اننا نعتبر ان توسع دور القطاع العام، وانحسار دور القطاع الخاص داخليًا، أديا الى وضع يجعل النمو الاقتصادي رهنًا بفاعلية الادارات العامة وتوصيف هذا النوع من الادارة يمكن اختصاره بالمقطع التالي المقتبس من تقرير وضعه 8 خبراء كان بينهم مروان اسكندر وكمال حمدان حول برنامج لتفعيل الاقتصاد اللبناني ومعالجة الشأن المالي. والتقرير وضع عام 1992 بتكليف من مجلس الوزراء.

” ان الاداء الاداري في لبنان اصبح في الظروف الراهنة عائقًاً اساسيًا في مواجهة الازمة الاقتصادية والاجتماعية. فهذه الادارة تعاني ضعف الانتاج والرقابة وتفشي البطالة المقنعة وانعدام الحساب الاقتصادي وعدم توافر التجهيزات الحديثة والعنصر البشري الكفي وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية. وهذه الامور كلها باتت تنطوي على كلفة اقتصادية واجتماعية باهظة لم يعد في وسع الاقتصاد اللبناني تحمل اعبائها. فقد اصبحت حصة الادارة العامة مما ينتجه المقيمون غير متناسبة مع حجم ونوعية الخدمات العامة التي توفرها هذه الادارة للمواطنين. ان المشكلة المطروحة على هذا الصعيد ليست ذات طابع اداري بحت، بل هي تعكس في جانب اساسي منها واقع الحياة السياسية اللبنانية عمومًا، التي لا تزال شديدة التأثر بالاعتبارات الطائفية والمذهبية والعائلية المنسحبة بأشكال مختلفة على مجمل اداء القطاع العام والسلوك الاداري”.

الادارة العامة المهترئة، بالمقارنة مع التطورات الادارية والتقنية العالمية كافية لطمر آمال اللبنانيين في التحسن لولا انطلاقات لبنانية فيها الكثير من الريادة والمعاناة في بلدان بعيدة وغير مستقرة، كما اختراق شركات لبنانية مجالات الانجاز العالمي.

اننا نستطيع التأكيد ان هنالك شركات لبنانية في مجالات الصيرفة والاتصالات والتعهدات والتعليم والتطبيب وتصنيع المأكولات وتوزيعها على نطاق واسع، تنتج في حجم اعمالها ما يوازي على الاقل نصف مستوى الدخل القومي في لبنان. وهذه الشركات كما الافراد الناشطين في عالم التجارة خارج لبنان يحققون مداخيل تفوق مداخيل الموظفين في لبنان سواء في القطاع العام او الخاص، وهم من حولوا عشرات المليارات من الدولارات سنويًا الى لبنان والرقم الاخير لعام 2016 بلغ رسميًا 7.6 مليارات دولار، وهي موارد تصب في لبنان نتيجة جهد خارج البلد. ويضاف الى التحويلات عبر المصارف المبالغ النقدية التي يحملها عائدون والتي تتدفق على أفرقاء سياسيين، وبالتالي ربما حاز لبنان سنويًا اكثر من 10 مليارات دولار من الخارج.

وهنا نأتي الى تأكيد مخيف: ان لبنان اقتصاديًا مع توسع دور القطاع العام واهتراء معظم ادارات مؤسساته كان مرشحًا للاختناق لولا فسحة الامل من اهله الناشطين في الخارج…وهذا بعض التطورات.

الاصلاح المنشود والمخفي

الحديث عن الاصلاح في العهد الجديد متنوع. والمواطنون لا يتحسسون المساعي الاصلاحية التي لا تزال على ما يبدو ضئيلة، والمنطلقات الدراسية للعهد تستند الى كتاب عن الاصلاح المالي انجزه منصور بطيش وورقة اقتصادية انجزها بالتشارك مع الدكتور شربل قرداحي وتمثل رؤية “التيار الوطني الحر”.

نبدأ بكتاب منصور بطيش الذي هو مصرفي ناجح ومواطن يتمتع بكل الصفات الحسنة، وهو يقدم في كتابه مقارنات مفيدة لكننا نجد تضاربًا في ما بينها كما نجد ان المقارنات لم تقترن بتدقيق حول جذورها،.

يبين كتاب منصور بطيش ان عائدات ضريبة الدخل من الضرائب على المعاشات وارباح الشركات تشكل نسبة ضئيلة من الدخل القومي تقل كثيراً عن النسب المحققة في بلدان ذات مستوى من الدخل الفردي (نحو 11 الف دولار سنويًا) يوازي معدلات الدخل في لبنان.

ان هذه المقارنة في غير محلها لان اللبنانيين العاملين في الخارج لا يسددون ضرائب على معاشاتهم وارباحهم، وهم يحولون مليارات الدولارات الى لبنان تسهم في تضخيم حجم النفقات الاستهلاكية، ومبدئيًا في زيادة عائدات الضريبة على القيمة المضافة.

المقارنة على هذا المستوى بين لبنان وغيره من البلدان لا تصح ما لم يكن هنالك بلد موازٍ في معدلات الدخل 30-35 في المئة من ابنائه القادرين على العمل يعملون في الخارج كما وضع اللبنانيين.

ويعتبر منصور بطيش ان حجم الدخل القومي في لبنان على مستوى 55 مليار دولار سنويًا، وهو الرقم المتداول دون تحقق بدراسة حقلية موسعة.

في المقابل، يشير الى ان حجم شيكات المقاصة تجاوز 72 مليار دولار، وهذه الشيكات تخصص ان لاغراض استهلاكية أو للاستثمار، ويضاف الى هذه حجم النفقات بالبطاقات المصرفية والذي يقدر بما بين 15 و18 مليار دولار، ناهيك بالمشتريات النقدية والنفقات على المستخدمين غير المسجلين، ونفقات المهجرين الخ.

قياسًا بهذه الارقام، وبما ان الدخل القومي يتشكل من النفقات الاستهلاكية، والاستثمارات، ونفقات الدولة، يبدو ان حجم الدخل القومي اقرب الى 70 مليار دولار.

اذا كان حجم الدخل القومي على المستوى الذي يستوحى من حجم الانفاق على الاستهلاك في المقام الاول، فالاستثمار تقلص لأسباب عدة منها التهافت السياسي على الانتفاع من خدمات وتعويضات الهيئات العامة، وعدم استقرار القوانين، وطول فترة المقاضاة الخ، فلا شك ان عائدات الدولة يجب ان تكون افضل من المحقق، وهنا تظهر مساوئ اهتراء الادارة وفرص اقتناص عائدات الدولة استنادًا الى التهريب والتهرب.

وقد شاهدنا مثلاً واضحاً بعد زيادة وزارة المال اسعار والتنباك والسيجار، فخسرت الدولة خلال أربعة اشهر 20 مليون دولار من العائدات وستبلغ الخسارة في حال استمرار زيادات الاسعار 100 مليون دولار خلال سنة.

ان كتاب الاستاذ بطيش يركز على زيادة العائدات وافتراض تحقيق الزيادة بالمقارنة مع أوضاع بلدان تماثل لبنان بمستويات الدخل والنمو، وفاته دور اللبنانيين في الخارج، وهو لم يركز على موضوع الهدر في الكهرباء الذي استوجب تخصيص 2100 مليار ليرة لبنانية من الدعم عام 2016 تتجاوز قيمة تعديل الاجور والمعاشات ومدفوعات التقاعد التي تشكل مشكلة اليوم.

لن نعرض أو نتعرض لورقة “التيار الوطني الحر”، فهذه الورقة تعدد المشاكل التي تواجه المجتمع على مختلف الصعد والتي تبدو من تعدادها وكأنها غير قابلة للحل. ونحن من الرأي القائل بان الحلول ممكنة ويمكن ان نبدأ بمعالجة تدريجية لمشاكل جذرية نختار منها المشاكل التالية:

– ادارة المؤسسات العامة وضرورة انتظامها وتكريس الحكومة الالكترونية ولو على مدى سنتين أو أكثر.

– معالجة قضية المياه. فاكبر عيب ان تصبح مياه بيروت ومياه اهدن بانتظار الشاحنات المحملة مياهًا لا نعرف مصدرها، والمياه اكبر ثروة للبنان واهله لو احسن استعمالها.

– تكريس برنامج للحفاظ على البيئة، والخطوة الأولى في هذا النطاق تطوير انتاج الكهرباء من الوسائل البديلة المناسبة للبيئة كحقول الطاقة الشمسية ومزارع انتاج الكهرباء من الهواء. وحسب جريدة “الفايننشال تايمس” عدد 25 ايلول 2017 استطاعت البلدان النامية تكريس استعمال مصادر الطاقة المستدامة (الالواح الشمسية والمزارع الهوائية) أكثر من البلدان الصناعية. فالهند والصين حققتا زيادة في انتاج الكهرباء من المزارع الهوائية بما يساوي 307 ملايين كيلووات ساعة ومن الالواح الزجاجية الشمسية بما يساوي 272 مليون كيلووات ساعة. وفي الشرق الاوسط وشمال افريقيا ينتظر زيادة انتاج الطاقة من المصادر المستدامة 14 مليون كيلووات ساعة في نهاية 2018، وهذه توازي زيادة سبعة اضعاف خلال سنة وتتركز في أبو ظبي والمغرب.

ان مشاريع انتاج الطاقة في لبنان تتأرجح بين السفن العائمة، استيراد الطاقة من سوريا، وانشاء معامل جديدة، ومشاريع انتاج الطاقة المستدامة موضوعة على الرف منذ ثلاث سنوات، وتكاليف هذه المشاريع انخفضت بنسبة 50 في المئة خلال سنتين. التشجيع الوحيد توافر من برنامج مصرف لبنان لتوفير قروض بفائدة صفر في المئة ولفترة طويلة لتجهيزات أو ابنية حفظ الطاقة وانتاج الطاقة المستدامة.

نكتفي عند هذا الحد بالاشارة الى ان العجز عن معالجة قضية النفايات بعد سنتين ونصف سنة من البحث عن حلول وهي موجودة لدى القطاع الخاص، اكبر برهان على عجز الدولة عن معالجة الحاجات الصحية والمدنية للمواطنين.

ويضاف الى ذلك التأثيرات السلبية على الصحة والتلوث والإنتاج لكثافة السير وغياب المعالجات.

اين نتوجه مستقبلاً: الى الطاقة المستدامة، استعمال المياه بكفاية، العناية بالبيئة،حل مشاكل السير، تطوير خدمات مرفأ طرابلس وتشغيل مطار رينه معوض، التأني في انتاج النفط والغاز واستعمال الموارد الناتجة من هذا النشاط، ترميم وتوسيع المصافي، تكريس الادارة الالكترونية، حماية المستويات التعليمية، الاستفادة من انفراج أوضاع سوريا، توسيع فرص العمالة

* محاضرة القيت في مركز اصدقاء كمال جنبلاط في 27 أيلول 2017.

اضف رد