تصدير
تنطوي الأزمات التاريخية التي يواجهها الشرق الأوسط الآن على نتائج طويلة الأمد لا حدود لها. ففي جميع أرجاء العالم العربي، تتعرض السلطة المركزية إلى ضغوط قاسية تكتنفها الصراعات في أطر مؤسسية يتفشى فيها الفساد. ويهدف مشروع “آفاق العالم العربي” الذي يُشرف عليه “برنامج الشرق الأوسط” في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي” وبدعم كريم من “مؤسسة الأصفري”، إلى إلقاء الضوء على التيارات العميقة التي تحدّد مسار هذه الأحداث الحافلة بالاضطراب.
ففي جميع أرجاء العالم العربي، تتعرض السلطة المركزية إلى ضغوط قاسية تكتنفها الصراعات في أطر مؤسسية يتفشى فيها الفساد.
ومن خلال مساهمات شبكة من الدارسين المتخصّصين في واشن
طن، وبيروت، ومناطق أخرى في الشرق الأوسط، يُلقي المشروع نظرة فاحصة على الانتفاضات الاقتصادية الاجتماعية التي يواجهها المواطن العربي، والضغوط المؤسسية على الدولة العربية، والواقع الجيوسياسي في المنطقة العربية.
ويأمل المشروع، من خلال فحص التغيّرات المركبة المتداخلة التي تحدث على امتداد المشهد الإنساني والسياسي والجيوسياسي، أن يقدّم إلى صانعي السياسات – في العالم العربي وفي الأسرة الدولية الواسعة على السواء – فهما أكثر دقة للأسباب التي أدت إلى عدم الاستقرار العميق الجذور في المنطقة.
في شهر شباط/فبراير 2016، أصدر مشروع “آفاق” دراسة مسحية بعنوان “أصوات عربية حول تحديات الشرق الأوسط الجديد”، عُرضت فيها وجهات النظر التي طرحها أكثر من مئة من الخبراء والدارسين العرب من شتى أرجاء المنطقة.1 وقد وضعت الأغلبية الغالبة من هؤلاء الخبراء التحديات السياسية المحلية في مقدمة الأولويات (ومنها النزعة التسلطية، والفساد وغياب المساءلة)، وقبل التحديات الجيوسياسية (مثل النزاع الإقليمي، والمنافسات الطائفية، والتدخل الأجنبي). واعتبر البعض ذلك حصيلة لسلسلة طويلة من الإخفاقات الجوهرية في مجال الحوكمة.
لماذا فشلت الانتفاضات العربية، باستثناء الانتفاضة التونسية، في تحقيق الوعد بحكم أفضل حالاً، وبتوفير الفرص الاقتصادية، والتعددية السياسية؟
وهذه الفكرة النيّرة – وهي أن الركود السياسي، والنزعة التسلطية، والفساد، ترتبط ارتباطاً لا فكاك منه بالصراع والإرهاب في المنطقة العربية – تمثّل نقطة الانطلاق في هذا التقرير. وهي تسعى إلى التصدّي لعدد من المسائل الجوهرية المُستغلقة العسيرة التي تواجه الشرق الأوسط: لماذا فشلت الانتفاضات العربية، باستثناء الانتفاضة التونسية، في تحقيق الوعد بحكم أفضل حالاً، وبتوفير الفرص الاقتصادية، والتعددية السياسية؟ لماذا انتشر الصراع المحلي والإقليمي في المنطقة على نطاق واسع وبهذه الصورة الوحشية؟ وكيف ستكون مواصفات العقود الاجتماعية الأكثر تقبلاً لمبدأ المساءلة بين المواطنين والدول، وكيف تستطيع البلدان العربية الإفادة من رأس المال البشري؟
يبدو أن النظام العربي القديم – الذي يتّسم بأنساق التسلّط السياسي والاقتصادات المعتمدة على النفط آيلٌ إلى الأفول. وفي ما تستحيل العودة إلى مرحلة ما قبل العام 2011 من دون بديل واضح، فإن ثمة خطراً بقيام أنظمة أكثر قمعا من سابقاتها. إضافةً إلى ذلك، من المتعذر أن نشهد نهاية لهذا الوضع، ما لم تتبلور مقاربات سياسية كليّة شاملة تبدأ بمعالجة الأسباب الاقتصادية الاجتماعية والسياسية عميقة الجذور لأزمات الشرق الأوسط.
عندما توضع في الاعتبار ضخامة هذه التحديات، يميل السكان الذين استولى عليهم اليأس إلى الانسحاب من ميدان النشاط السياسي والتركيز على الأمن الشخصي، مثلما يميل صنّاع السياسات إلى التركيز المحدود على تهديدات الأمن ومكافحة الإرهاب. بالطبع، هذه المخاطر حقيقية وتستحق كل الاهتمام، بيد أن المظالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية – والأهم من ذلك كله المطالبة بالكرامة الإنسانية والعدالة – لازالت ماثلة للعيان.
يرمي هذا التقرير إلى إثارة النقاش حول الحاجة إلى بروز اتجاهات جديدة في العالم العربي. ونحن نرحّب بالملاحظات النقدية المُتبصّرة حول ما يرد هنا من تحليلات، وقد ينعكس ذلك في إصدارات “آفاق العالم العربي” المقبلة.
مروان المعشّر
نائب الرئيس للدراسات
مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
كانون الأول/ديسمبر 2016
ملخّص
إن أركان النظام العربي القائمة منذ أمد بعيد، وهي المساومات السلطوية وعائدات الموارد الهيدروكربونية، آخذة بالانهيار، فيما تواجه المؤسسات السياسية المطالب المتعاظمة لجماهير السكان المتزايدة. وكان من نتائج ذلك انتشار العجز والقصور والقمع على نطاق واسع في المجالات الاقتصادية الاجتماعية، ما أدى إلى تفكّك الدولة على نحو غير مسبوق، بخاصة في العراق، وليبيا، وسورية، واليمن. وأدت هذه العوامل، بدورها، إلى نزوح أعداد هائلة من البشر وإلى شيوع الألاعيب بين القوى الجيوسياسية. وإذا ما قُدّر للنظام أن يعود بعد انحسار النزاعات، سيتعيّن على المواطنين والدول صكّ عقود اجتماعية جديدة تؤسس المحاسبة والمساءلة وتنشّط عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي.
جذور الانهيار الإقليمي
- تنشغل المجتمعات في جميع أنحاء العالم بالتحوّلات التكنولوجية، والاقتصادية، والثقافية. ومع ذلك، فإن الضغوط المتأصلة كانت قابلة للاشتعال والانفجار بصورة خاصة في العالم العربي، جرّاء القصور المؤسسي وانتشار الصراع والنزعات الطائفية والراديكالية.
- ثمة أزمة بين الحكومات والمواطنين. كما تداعت المساومات السلطوية التي تقوم بموجبها الأنظمة بتقديم الخدمات الاجتماعية والوظائف الحكومية على سبيل المقايضة، لاسترضاء المواطنين. وقد أخذت هذه العقود الاجتماعية بالتآكل، في الوقت الذي لم تعد فيه الميزانيات المتضخمة والإدارات البيروقراطية المنتفخة قادرة على تلبية احتياجات التكاثر السكاني.
- فقدت الدول سيطرتها على مساحات واسعة من الأراضي لصالح لاعبين من خارج الدولة، بمن فيهم تنظيم الدولة الإسلامية. كما أن المراكز المؤثّرة سابقاً، مثل مصر والعراق، تتعرّض الآن إلى تقييدات حادّة جرّاء انتشار مواطن الضعف المحلية. والدول القوية تتدخّل على نحو متزايد في شؤون الدول الضعيفة، مايزيد من حدّة الصراع الداخلي في المنطقة.
- وإلى جانب الدول المجاورة المصدرة للنفط، فإن البلدان المستوردة للنفط، التي تعتمد منذ أمد بعيد على التحويلات النقدية، والمساعدات والاستثمارات الخارجية، ستواجه ضغوطاً متزايدة جرّاء انهيار أسعار النفط. وقد أعاق الاعتماد على عائدات النفط عملية التنمية الاقتصادية والسياسية في العديد من الدول، وجعلها غير مهيأة للتعامل مع الاضطرابات الناجمة عن ذلك.
تجاذب بين التخندّق والتغيير
- تلجأ أنظمة الحكم العربية، باستثناء قلّة منها، بصورة متزايدة، إلى استخدام الوسائل القسرية لإعادة تأكيد قدرتها على السيطرة. غير أن المواطنين لن يتخلّوا عن مطالبتهم بالمزيد من المساءلة والمحاسبة، والشفافية، والفعالية السياسة، بينما تتناقص خدمات الرفاه الاجتماعي، مما يرجّح تصاعد التوتر بين المواطنين والدولة.
- ترتبط السيطرة السياسية بالسيطرة الاقتصادية ارتباطاً وثيقاً لا ينفصم عراه في أرجاء العالم العربي، ويؤدي ذلك إلى انتشار المحسوبية والفساد ويتطلب وضع الأسس لتنمية اقتصادية مستدامة يتولاها القطاع الخاص لفك هذا الترابط.
- قد يبدو استمرار الفوضى في الشرق الأوسط أمراً لا محيد عنه، غير أن مناطق أخرى شهدت انهيارات مماثلة واستدركت الأمر قبل أن تهوي إلى الهوة السحيقة. غير أن هذه المحاولات لتدارك الوضع في الشرق الأوسط ستبوء بالفشل، إلا إذا أبرمت المجتمعات العربية عقوداً اجتماعية جديدة تقوم على نماذج أكثر استدامة في المجال السياسي والاجتماعي الاقتصادي.
مقدّمة
مينا، وهي مُدرّسة سورية في السادسة والعشرين، في حيرة من أمرها: بين ماضٍ مضى وانقضى، وحاضر أوروبي غير مألوف، ومستقبل ملتبس. تمتعت بحياتها في مدينة حمص، حين كانت تعمل في مؤسسة للأطفال المصابين بالتوحّد وتواصل تحصيلها العلمي في الوقت نفسه. لم تكن تمارس أي نشاط سياسي، لكنها حرصت على التزام الحياد عندما تحوّلت الاحتجاجات السلمية المناهضة للحكومة التي بدأت في العام 2011 إلى حرب أهلية. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2015، هربت من منزلها ومن بلادها.
تعيش مينا اليوم في مخيم للاجئين في برلين. ومع أنها وجدت عملاً في إحدى المدارس التمهيدية المحلية فإنها تقول، “مايرهقني إلى درجة لا تصدّق أن عليّ أن أبدأ حياتي من جديد”. ويساورها القلق حول المعاناة النفسية التي يحملها أولئك الذين بقوا في سورية: “إنهم على قيد الحياة فقط. يأكلون، ويشربون، وينامون”.
مع ذلك، فهي تأمل أن تطوّر مهاراتها التعليمية خلال وجودها في ألمانيا، ليتسنى لها المساهمة في إعادة بناء سورية عندما يتحقق حلمها بالعودة إلى بلادها.
وكما حدث لمينا، دخل الكثيرون في العالم العربي مرحلة الاقتلاع العميق تلك. لقد انقرض النظام القديم، فيما النظام الذي سيحل محله لايزال غير واضح المعالم. وتواجه الأنظمة العربية عاصفة عاتية تفتّت العلاقة بين المواطن والدولة، وتتصاعد معها الصراعات المحلية والإقليمية، وتنهار أسعار النفط، وترتفع معدّلات الحرارة ويلوح في الأفق احتمال حدوث نقص حادّ في المياه، ويتهافت الإحساس بالهدف المشترك بين الزعامات السلطوية في المنطقة. وهي عاصفة لم تكن تلك الأنظمة، عدا قلة قليلة منها، مستعدة لمواجهتها. وكانت الحصيلة هي الفترة الأكثر دماراً في الشرق الأوسط منذ تأسيس الدول العربية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى.
لقد انقرض النظام القديم، فيما النظام الذي سيحل محله لايزال غير واضح المعالم.
درجت الأنظمة العربية، على مدى عقود عدة، على توفير الخدمات الاجتماعية ودعم المواد الاستهلاكية والوظائف الحكومية، مقابل مشاركة ضئيلة، أو عدم المشاركة على الإطلاق، من جانب المواطنين في اتخاذ القرار – بما معناه عقود اجتماعية تقوم على أساس المساومات السلطوية. وقد اختلفت البلدان العربية اختلافاً بيّناً في الطريقة التي تدير بها شؤونها الداخلية. لكنها كانت كلها تقريباً تخضع لأنظمة حكم أوتوقراطية استبدادية، سواء في أساليب السيطرة أو استخدام القمع. فقد أنشأت أجهزة استخبارية وأمنية قوية وبذلت جهوداً ضخمة للإيهام بشرعيتها السياسية، ما يمثّل تحدياً صعباً في جمهوريات عربية عُرفت بكراهيتها للمؤسسات الديمقراطية. ومع تزايد الروابط بين القوتين السياسية والاقتصادية في كثير من البلدان العربية، تنامت شبكات المحسوبية القوية. كما أن النزاع العربي الإسرائيلي والحرب الباردة كانا حجر عثرة كذلك في طريق التنمية المؤسسية، مثلما كانا ذريعة لغيابها.
أدّى تركيز تلك الأنظمة على أدوات الاجتذاب والوسائل القسرية إلى خلق ثقافة التبعية وإلى وضع عقبات كبيرة في وجه المحاولات الرامية إلى تنمية مؤسسات قد تشجّع على تطبيق حوكمة شاملة. والأدهى من ذلك أن الأنظمة الفاسدة القمعية الجشعة أصلاً التي برزت في كثير من البلدان، قاومت بعنف جميع جهود الإصلاح وحرمت تلك البلدان من الأدوات اللازمة لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الجديدة.
في تلك الأثناء، كانت خلطة من القوى المحلية والعالمية تمر في حالة اختمار بطيء، ومنها: طفرة شبابية بارزة في البنية السكانية في العالم العربي؛ وطفرة حادة للإرهاب والتطرف الديني بعد الآثار التي خلّفها غزو الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 والحرب الأهلية السورية المستمرة؛ والمنافسة الاقتصادية الدولية المتسارعة؛ وتكنولوجيا المعلومات التحويلية. وما من خريطة طريق ثقافية أو سياسية لعثرات اقتصادية اجتماعية بهذا الحجم. وإذا كانت المؤسسات السياسية المرنة نسبياً، مثل تلك القائمة في أميركا الشمالية وأوروبا، قد جهدت للتكيّف مع تلك التغيرات الزلزالية، فليس من المستغرب أن الأنظمة العربية الخامدة قد فوجئت ولم تكن مستعدة عندما بدأت الانتفاضات في العام 2011.
إن انهيار النظام الإقليمي، إذاً، مثّل في جوهره أزمة ثقة بين الحكومات والمواطنين.
إن انهيار النظام الإقليمي، إذاً، مثّل في جوهره أزمة ثقة بين الحكومات والمواطنين. ففي العام 2011، اتضح أن مايسمى عقوداً اجتماعية إنما كان من طرف واحد، لأن المواطنين في المنطقة رفضوا بشكل صريح الأسس التي أقيمت عليها المساومات السلطوية.
بعد النفي المفاجئ وغير المتوقع للرئيس التونسي زين العابدين بن علي، لجأت بعض الأنظمة إلى دليل إرشادي مألوف لاحتواء مضاعفات ماحدث في تونس، حين ردّت باستخدام مزيج من المعونات الاجتماعية والسياسية القمعية، مع درجات متفاوتة من الوحشية والحنكة. وكان من نتائج ذلك أن بعض الأنظمة الأكثر قمعاً في المنطقة، وهي العراق وليبيا وسورية واليمن، بدأت تتشرذم على أسس إثنية وإيديولوجية وطائفية وقبلية، بينما شهد بعضها الآخر قلاقل داخلية مهمة. إذ تجلّت أكثر هذه المظاهر تطرّفاً في سورية التي وجد مواطنوها أنفسهم آنذاك بين شقّي رحى: نظامٌ مستعدٌّ لتدمير مدنه حجراً على حجر، والعنف المبيد الذي يمثّله تنظيم الدولة الإسلامية، وقد فاقمت الضغوط الخارجية أزمات الدولة. وعلى الرغم من أن أسعار البترول قد استقرّت بعد أن فقدت 70 في المئة من قيمتها، من المتوقّع أن تبقى على انخفاضها في المستقبل المنظور، فتطرح بذلك تحديات مالية مهولة أمام العالم العربي. وفي جميع دول المنطقة، بما فيها تلك الأكثر ثراءً، ستفتقر الأنظمة الاقتصادية الريعية، التي كانت عائدات بيع النفط تموّل أنظمة وطنية واسعة للرعاية والمحسوبية والإعالة، بصورة متزايدة، إلى الاستدامة مع مرور الوقت، بل إن البلدان شحيحة الموارد في المنطقة ستتأثر من ذلك، لأن معظم الدول العربية غدت تعتمد، بصورة أو بأخرى، على عائدات النفط في المنطقة.
لن يكون بمقدور الدول العربية تنمية مجتمعات مزدهرة إلا إذا اقتدت بنماذج سياسية واقتصادية جديدة.
لن يكون بمقدور الدول العربية تنمية مجتمعات مزدهرة إلا إذا اقتدت بنماذج سياسية واقتصادية جديدة. وبما أنه يُطلب من المواطنين أن يُضحّوا بمزايا المعونة الاجتماعية التي اعتادوا عليها منذ عهد بعيد بدعوى التقشف المالي، فإن قبولهم بالأنظمة القديمة التي ستوجّه فيها السلطة أوامرها من القمة إلى القاعدة سيتوقف، وسيطالبون بالمساءلة، والعدل، وبدور أكبر في القرارات المتعلقة بالقضايا الوطنية. وبالنسبة إلى الزعماء الذين اعتادوا منذ أمد بعيد على ممارسة السلطة المطلقة، سيمثّل مصيدة خطرة – من صنعهم هم أساساً – وهم لن يجانبوا الصواب إذا اعتقدوا أن طريق الإصلاح السياسي والاقتصادي سيؤدي إلى فقدان جانب من السلطة والنفوذ. وبذلك، ستواصل هذه الأنظمة، باستثناء قلة منها، التشبث بالوضع الراهن المتهافت، حتى لو أسفر ذلك عن نتائج كارثية.
في غمرة البلبلة التي اكتنفت الأوضاع القديمة، يشوب الغموض الوجهة التي ستتجّه إليها المنطقة. وقد لاحظ الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي في السجن في إيطاليا الفاشيّة في ثلاثينيات القرن الماضي أن “الأزمة تتجلّى تحديداً في أن القديم آيلٌ إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد؛ وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأعراض المَرَضية”. وهذا هو الواقع الذي يواجهه اليوم الشرق الأوسط، وهو منطقة تظل ذات أهمية حاسمة للسلام والأمن العالميين.
يحاول هذا التقرير استقصاء الأسباب الكامنة وراء الاضطرابات التي تشهدها المنطقة. وهو يتفحّص التيارات العابرة للحدود التي تفعل مفعولها أفقياً وعمودياً، في الميادين الإنسانية والسياسية والجيوسياسية في المنطقة، أي العلاقات المتداخلة بين هذه التيارات في داخل البلدان وفي ما بينها على السواء. وبصورة أكثر تحديدا فإن التحليل يتناول:
- المشهد الإنساني – تجارب المواطنين العرب المتغيّرة في سياق الضغوط الديمغرافية والهجرة البشرية، والاستقطاب السياسي، والحراك الاجتماعي.
- المشهد السياسي– أزمة الحوكمة في أرجاء المنطقة، والضغوط على الأنظمة الريعية، وتأثير القطاع الأمني ووسائل الإعلام على السياسات العربية.
- المشهد الجيوسياسي– النظام الإقليمي الآيل للانهيار في سياق حافل بالعديد من الصراعات الداخلية والنزاعات بين الدول، ومضاعفات انخفاض أسعار النفط، وآثار التغيرات المناخية وشحّ الموارد المائية في المدى البعيد.
وستشكّل نتائج الاستقصاء، إطاراً لفهم كيف تتفاعل هذه الانهيارات مع بعضها البعض داخل كل مشهد، وكيف يمكن أن تبدأ مختلف البلدان في معالجتها. ولتوضيح الكيفية التي تفعل بها هذه الأعطال والتيارات مفعولها في سياقات متباينة، يطرح التقرير ثماني دراسات عن ثماني حالات: مصر، والعراق، والأردن، وليبيا، وفلسطين، والمملكة العربية السعودية، وسورية، وتونس. وكان من الممكن اختيار أقطار أخرى، غير أن هذه البلدان هي الأبرز في تبيان التيارات الأساسية في العالم العربي، وفي إيضاح الأساليب المتباينة التي تلجأ إليها الحكومات لمواجهتها. ويمثّل فهم التجارب التي تمر بها هذه البلدان عنصراً حيوياً لفهم ما ينتظر العالم العربي.
المشهد الإنساني
كان لانهيار النظام الإقليمي وتآكل العقود الاجتماعية في كثير من البلدان العربية تداعيات مهمة في ما يتعلق بعلاقة المواطنين العرب بحكوماتهم وعلاقاتهم مع بعضهم البعض. ومع أن المجتمعات في جميع أنحاء المعمورة منشغلة بالتكيّف مع التحوّلات التكنولوجية والثقافية، فإن هذه الضغوط الاجتماعية تطرح مزيجاً قابلاً للاحتراق بصورة خاصة في الشرق الأوسط في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها المنطقة، وانتشار الصراع، والنزاعات الطائفية والراديكالية. فالتحوّلات الاجتماعية المركبة تحدث في أربعة ميادين متداخلة هي: الجانب الديمغرافي والتنمية الإنسانية، والهجرة، والاستقطاب، والحراك الاجتماعي.
الجانب الديمغرافي والتنمية الإنسانية
المشهد الإنساني | المشهد السياسي | المشهد الجيوسياسي
يعتمد الاستقرار والازدهار في البلدان العربية في المستقبل على تسارع معدلات التنمية الإنسانية، لأن التعويل على الموارد الهيدروكربونية لم يعد أمراً يُركن إليه بسبب التكاثر السكاني من جهة، والتغيرات في أسواق الطاقة العالمية من جهة أخرى. وفي حين حققت البلدان العربية بعض التقدّم في مجال معرفة القراءة والكتابة والتعليم العالي بالنسبة إلى النساء، فإن ثمة تخلّفاً في جوانب أخرى من التنمية الإنسانية تعيق النقلة المطلوبة من النمو الذي يسيّره القطاع العام إلى نمو يوجّهه القطاع الخاص. وتتعلق إحدى العقبات الرئيسية بالمدركات والمواقف. فمع تزايد البطالة والتململ في أوساط الشباب، مالت بعض الحكومات إلى التعامل مع الجيل الجديد من المواطنين بوصفهم تهديداً أمنياً لا ركناً ركيناً من أركان الاقتصاد، فعرقلت بذلك أنشطتهم في المجال العام. وهذه المواقف، في التحليل الأخير، هي التي تحرم المنطقة من ربحية ومنفعة مُضْمرة تتمثّل في النمو الاقتصادي المتسارع نتيجةً لتوسّع القطاع السكاني القادر على العمل، وهذا ماشجّع وعزّز في الماضي اقتصادات شرق آسيا ومناطق أخرى.2
في العام 2002، أحدث التقرير الأول من سلسلة تقارير “التنمية الإنسانية العربية” هزة مؤثرة في المنطقة. وقد تضمنت هذه التقارير، التي أعدّتها مجموعة من الدارسين والباحثين العرب المستقلين المرموقين، تحقيقات صريحة ومؤلمة عن أوضاع التنمية البشرية في البلدان العربية. وخلُص تقرير العام 2002 إلى أن العالم العربي يعاني العجز والقصور في ميادين الحريات السياسية، والتعليم، وتمكين المرأة.3 وبعد مايقرب من خمس عشرة سنة، لازالت هذه التحديات ماثلة للعيان وانضمّت إليها تحديات جديدة.
وخلُص تقرير العام 2002 إلى أن العالم العربي يعاني العجز والقصور في ميادين الحريات السياسية، والتعليم، وتمكين المرأة.
تعرِّف تقارير التنمية الإنسانية الحرية (فريدوم هاوس) بأنها “الحوكمة التشاركية”. وبحسب تقديرات منظمة “بيت الحرية” ، لم تنضم إلى قائمة الدول “الحرّة” منذ العام 2002 حتى الآن غير دولة عربية واحدة هي تونس. وهناك دولتان أخريان، هما لبنان والمغرب، تُعتبر كل منهما “حرّة جزئياً”؛ أما بقية البلدان فقد صُنّفت باعتبارها غير حرّة.
خلال العقود الأخيرة، حققت البلدان العربية نجاحاً في مجالات الالتحاق بالمدارس ومعرفة القراءة والكتابة، غير أن نوعية التعليم – أي توفير المهارات المطلوبة لأغراض الاستخدام، والتدرّب التكنولوجي والبحث الأكاديمي والعلمي- لازالت تمثّل تحدياً رئيسياً. ويبرز التفاوت في هذه الناحية بين البلدان العربية الأكثر ثراء وتلك الأكثر فقراً. وقد جاء في مؤشر التنافسية العالمية 2014-2015 الصادر عن “المنتدى الاقتصادي العالمي” أن الإمارات العربية المتحدة تحتل المرتبة 12 بين 144 دولة شملها المسح حول نوعية التعليم في الدراسات العليا، بينما كانت مرتبة مصر، وليبيا، واليمن، 119، و126، و142 على التوالي.4
بالنسبة إلى تمكين النساء، شهدنا تقدّماً في مجال معرفة القراءة والكتابة والالتحاق بالمدارس والجامعات في صفوف الإناث منذ العام 2002. وارتفع معدّل معرفة القراءة والكتابة في صفوف النساء البالغات في العالم العربي من نحو 41 في المئة في العام 1990 إلى 69 في المئة العام 2010.5 وفي أغلب البلدان العربية، تتفوّق الإناث على الذكور عددياً في مجال الالتحاق بالجامعات.6 ومع ذلك، لازالت مشاركة النساء في القوى العاملة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأدنى بين جميع بقاع العالم، إذ لا تتجاوز نسبة 22 في المئة، مقارنةً مع المعدل العالمي الذي يبلغ 50 في المئة.7 وبالمثل، تُعدّ المشاركة السياسية في البلدان العربية أدنى من معظم مناطق العالم، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة التي تبيّن نسب النساء الوزيرات والبرلمانيات في العالم.8
يُضاف إلى ذلك أن تحديات التنمية الإنسانية، ولاسيما البطالة، ازدادت حدّة مع التكاثر السكاني. ويحتل معدل التزايد السكاني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المرتبة الثانية عالمياً بعد منطقة جنوب الصحراء الأفريقية. ومع أن معدل الخصوبة قد انخفض بين العامين 1990 و2014 من 5.2 طفلاً إلى 3.4 لكل امرأة، فإنه ما زال أدنى بكثير من نسبة الاستبدال، وهي 2.1. بل إن المعدل في بلدان عدة، أبرزها العراق، وفلسطين، والسودان، واليمن، يزيد على أربعة أطفال لكل أنثى.9 أما مصر، وهي الأكثر اكتظاظاً بالسكان في المنطقة، فقد شهدت تزايداً سريعاً في حجم سكانها الذين ارتفع عددهم من 68 مليوناً العام 2000 إلى 92 مليوناً العام 2015، بينما ارتفعت معدلات الخصوبة (التي تناقصت إلى حدٍّ كبير خلال العقود الأخيرة) مرة أخرى بين العامين 2007 و2014 لتبلغ 3.3 أطفال للمرأة.10
ونتيجةً لمعدلات الخصوبة المرتفعة تاريخياً، شهدت الدول العربية طفرة شبابية، أي قطاعاً من الشباب البالغين أكبر مما شهدته الفئات العمرية الأخرى. ويبيّن الشّكل (1) أدناه، الذي يوضح التوزيع حسب الجنس والعمر في الدول الاثنين والعشرين الأعضاء في جامعة الدول العربية، طفرة شبابية تقليدية، مقارنةً مع الشكل (2) الذي يظهر المعدّل المتقلّص للفئة الشبابية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.11
يعني توزيع المراهقين والشباب البالغين في سن الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن أعداد من يطالبون بفرص العمل وبمستويات أعلى من التحصيل العلمي أو التدريب المهني العالي ستكون عالية بصورة غير عادية. وقد ارتبطت الطفرات الشبابية تاريخياً بالصراعات الأهلية،12 ما يضاعف حاجة الدول التي تبرز فيها الطفرات الشبابية إلى تحقيق نمو اقتصادي سريع لمواكبة تزايد أعداد الشباب في سن العمل. وعندما تخيب تطلّعات هؤلاء الشباب، تنحو البلدان إلى حالة من عدم الاستقرار. وفي العالم العربي، الذي لازال يعاني من أعلى معدلات البطالة في العالم،13 ترتفع مستويات الإحباط.14 وتبرز هنا كذلك نتائج الفجوة بين الأجيال في المجالات الاجتماعية والسياسية: فبينما تنتشر فئة الأعمار الوسيطة دون الحادية والعشرين في بلدان عربية عدة، يتركّز النفوذ السياسي والاقتصادي بصورة محكمة في صفوف الجيل الأكبر سناً.15
وعندما تخيب تطلّعات هؤلاء الشباب، تنحو البلدان إلى حالة من عدم الاستقرار.
تبتعد بعض البلدان العربية، مثل تونس، تدريجياً عن الطفرة الشبابية مع انخفاض معدلات الخصوبة.16 غير أن السكان في البلدان العربية الأخرى لازالوا يتكاثرون بمعدلات سريعة، كما يُتوقّع أن تشهد بعض الدول الأكثر اكتظاظاً بالسكان، مثل مصر، طفرة شبابية أضخم خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة المقبلة.17
إن هذه الضغوط السكانية تزيد من الحاجة الملحّة في البلدان العربية لمعالجة الفجوات في التنمية البشرية، ولتفكيك شبكات المحسوبية. وتساوي قوة عمل مدربّة مع تنمية قطاع خاص يؤمّن فرص العمل. وتبيّن التجربة في سياقات أخرى أن تلك الطفرات الشبابية قد تتحوّل إلى مزايا تنموية عند توخي السياسات الاستثمارية والخيارات السياسية السليمة، ولاسيما في مجالات التعليم. وإذا لم تتحقق النقلة في البلدان العربية إلى مرتبة أعلى في تصنيفات التنمية البشرية، قد تستمر الاتجاهات الديمغرافية بوصفها إحدى أسباب المشكلات، بدلاً من أن تفضي في سنوات مقبلة إلى الازدهار.
الهجرة البشرية
المشهد الإنساني | المشهد السياسي | المشهد الجيوسياسي
تعاظمت تحديات الديمغرافيا والتنمية البشرية جرّاء تحركات السكان الهائلة التي أشعلتها النزاعات في جميع أرجاء المنطقة في مرحلة ما بعد العام 2011. وقد شهدت بعض البلدان، ولاسيما العراق وسورية نزوح أعداد ضخمة من المواطنين، هرباً من جحيم الصراع إلى دول مجاورة أو بقاع أخرى في مختلف أرجاء أوروبا. وكان من نتائج ذلك، أن عانت هذه البلدان من انخفاض حاد في جوانب من التنمية البشرية ومن تراجع مثير في أعداد وتخصصات من بقي من العاملين، مثل المستخدمين في مجالي الطب والهندسة. وهناك بلدان أخرى، مثل لبنان والأردن، التي استقبلت موجات متدفقة من اللاجئين، تعاني ضغوطاً قاسية بسبب ما تقدّمه من خدمات مثل التعليم، والضمان الاجتماعي والأجهزة الأمنية. يُضاف إلى ذلك أن الأنظمة السياسية القائمة على سياسات الهوية غدت أكثر تعقيداً بسبب التغيّرات السريعة في النسيج الاجتماعي في تلك البلدان.
من الصعب أن نبالغ في تقدير حجم الكارثة. ففي العام 2015، أشارت التقديرات إلى أن نحو 143 مليون عربي يعيشون في بلدان تعاني ويلات الحرب أو الاحتلال،18 كما أن نحو17 مليوناً طُردوا قسراً من منازلهم.19 وبينما يشكّل العرب 5 في المئة فقط من سكان العالم،20 إلا أنهم يشكّلون أكثر من 50 في المئة من لاجئيه.21
ومع وجود أكثر من 4.8 ملايين شخص أرغموا على الهرب من بلادهم ونحو 6.6 ملايين أرغموا على النزوح الداخلي،22 فإن واحداً من بين كل خمسة لاجئين عالميين يكون سوريّا.23 كما أن العراق، الذي عانى من موجات من النزوح تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، شهد كذلك حركات نزوح داخلية ملموسة نتيجة لاستمرار النزاع، حيث فرّ مايزيد عن 3.3 ملايين نسمة من الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية.24 ويواجه سكان ليبيا والسودان واليمن التهجير القسري كذلك. علاوةً على ذلك، استضاف العالم العربي أعداداً كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين، وهم جالية اللاجئين الأقدم والأضخم في العالم ويبلغ عددهم نحو 5 ملايين نسمة، منذ الحربين العربية الإسرائيلية في العام 1948 والعام 1967.25
كانت الصراعات في المنطقة، ومانجم عنها من تحركات سكانية واسعة النطاق، قد أفضت إلى تغييرات اجتماعية كبيرة، وإلى خطر سقوط السكان اللاجئين في مصيدة دوائر الفقر المتوارثة من جيل إلى جيل. فالسكان الذين هربوا من العنف قد التحقوا بالمحاربين، أو أنهم أصبحوا لاجئين، ومنهم من يتمتع بالوضع الأفضل للمساهمة في عملية الإعمار بعد الحرب، ويمثّلون، أساساً، الشباب والطبقة الوسطى. وتشير دراسة حديثة، على سبيل المثال، إلى أن 86 في المئة ممن هربوا من سورية إلى اليونان بين نيسان/أبريل وأيلول/سبتمبر 2015، يحملون شهادات الدراسة الثانوية أو التعليم الجامعي.26 يضاف إلى ذلك أن أكثر من 2.8 مليون طفل سوري لا يرتادون المدارس،27 وقد يؤدي ذلك إلى نتائج وخيمة على المدى الطويل.
فالسكان الذين هربوا من العنف قد التحقوا بالمحاربين، أو أنهم أصبحوا لاجئين، ومنهم من يتمتع بالوضع الأفضل للمساهمة في عملية الإعمار بعد الحرب، ويمثّلون، أساساً، الشباب والطبقة الوسطى.
قُدّرت نسبة الفقر الكلية في سورية العام 2014 بنسبة 83 في المئة، بمن فيهم نسبة 35 يعيشون دون خط الفقر المدقع، ولايستطيعون تلبية الاحتياجات الأساسية لأسرهم،28 وفي أماكن أخرى، يعيش نحو 11 مليون شخص في اليمن في ظل ظروف في غاية القسوة من الناحية الغذائية.29 وفي العراق وليبيا، تقدّر الأمم المتحدة عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى شكل من أشكال المعونة الغذائية بنحو 2.4 مليون و210000 على التوالي.30
يستضيف الأردن ولبنان أكبر عدد من اللاجئين في العالم العربي، ومنهم نحو 655000 لاجئ سوري مسجّل في الأردن،31 ونحو 1.01 مليون في لبنان،32 إضافةً إلى جماعات اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان منذ عهد بعيد، وتتألف من نحو 2.1 مليون،33 و450000 لاجئ مسجل.34 وهذا يؤثّر تأثيراً بالغاً على المجتمع وعلى البنى الأمنية في كل من البلدين ويهدّد بتقويض العقود الاجتماعية القائمة. وقد أفضى استقرار أعداد ضخمة من اللاجئين في الأراضي الأفقر في كل من الأردن ولبنان إلى تسريع عملية الزحف الحضري إلى مناطق تفتقر إلى البنى الضرورية اللازمة، مثل مخيّمي المفرق والزعتري اللذين يؤويان 158683 لاجئاً سورياً، أو نحو 24 في المئة من جميع أولئك المسجّلين في الأردن.35
تعرّضت أجهزة الضمان الاجتماعي، التي أظهرت مستوى عالياً من القدرة على التكيّف والكرم في استضافة اللاجئين هي أيضاً إلى ضغط هائل. فقد شهد الأردن ولبنان كلاهما تراجعاً في مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل التعليم والصحة، وانخفاضاً في الأجور، وتزايداً في معدلات البطالة في قطاع الشباب والقطاع غير الرسمي، وارتفاعاً في معدل عمالة الأطفال.36 وفي لبنان، على سبيل المثال، يزاول العمل 10 في المئة من الأطفال السوريين اللاجئين، بمن فيهم 18 في المئة من الأطفال اللاجئين في سهل البقاع. ويُعتقد أن 26 في المئة من الأطفال اللاجئين السوريين سُحبوا من المدارس.37
فاقمت أزمات اللاجئين سياسات الهُويّة التي غيّرت التكوين الثقافي لكل منطقة وعقّدت، إلى حد كبير، الجهود التي بُذلت بعد الحرب للمصالحة. وعلى سبيل المثال، أُخليت وأفرغت الموصل من أهلها المسيحيين للمرة الأولى منذ قرون، غير أن المسيحيين كانوا أفضل حالاً من الأيزيدين والشبك، والمندائيين، والشيعة والتركمان، الذين تعقّبهم تنظيم الدولة الإسلامية وقتلهم. كما أن عمليات نقل السكان لم تعد مجرّد آثار جانبية للصراع على السلطة السياسية في الاتفاقات السياسية المحلية في بعض المواقع. وعلى سبيل المثال، نصّت الاتفاقات لإنهاء الحصار على الزبداني في العام 2015 وداريّا العام 2016 في سورية على نقل السكان.38
لم تؤدِّ هذه التركيبة الديمغرافية العربية إلى إضعاف الدول والمجتمعات العربية وحسب، بل قوّضت، ربما بدون أمل في الإصلاح، منظومة قيم التعايش والتعددية.
لم تؤدِّ هذه التركيبة الديمغرافية العربية إلى إضعاف الدول والمجتمعات العربية وحسب، بل قوّضت، ربما بدون أمل في الإصلاح، منظومة قيم التعايش والتعددية. ولا شك أن خلق الكيانات الإثنية والطائفية، سيفضي إلى زرع واستنبات بذور الصراع لعقود عدّة مقبلة، مع طرح مطالبات جديدة لاستخدام حق العودة.
وأخيراً، قد يؤدي ظهور لاعبين واقتصادات جديدة في مناطق النزاع، إلى إعطاء، دفعة للتهجير القسري، ويؤثر على مستقبل السلام. فقد غدا تهريب المهاجرين، على سبيل المثال، صناعة مترامية الأطراف للجريمة المنظّمة في أوروبا، يتراوح ريعها السنوي بين خمسة وستة مليارات دولار.39 وقد برز في سورية اقتصاد ضخم، مرتبط بالصراع، ويشمل بيع الأسلحة، وتهريب الأغذية والمنتجات الأساسية، وأنشطة إجرامية أخرى. وتشير بعض التقديرات إلى أن مايقرب من 17 في المئة من سكان سورية النشطين يعملون في الاقتصاد المرتبط بالنزاع، ما أسفر عن خلق طبقة جديدة تنامت ثرواتها بفعل الحرب.40 ويستطيع كثير من هؤلاء اللاعبين، ومعهم أعداد كبيرة من المليشيات التي شُكّلت إبّان الحرب، أن يفسد أية فرصة في المستقبل للوصول إلى تسوية سلمية. ونتلمس اتجاهات مماثلة، ولكن إلى حد أقل، في العراق، وليبيا واليمن، كما نلمح آثارها على البلدان المجاورة. وقد غدت مدن تونس الحدودية، على سبيل المثال، متورطة بصورة وثيقة في اقتصاد ليبيا المرتبط بالحرب.
مع ارتفاع حدّة الصراع، قد يتواصل تدفق السكان النازحين على جانبي الحدود في البلدان العربية، دخولاً وخروجاً. وسيولّد هذا التوسع تحوّلات أكثر إثارة في النسيج الاجتماعي والنظرة الاقتصادية للمنطقة. وعودة هذه الأعداد الضخمة من اللاجئين ستعتمد، إلى حد بعيد، على شكل تسويات السلام التي ستضع حدّاً للنزاعات الحالية، وعلى قدرتها على ضمان السلامة والأمن لمن استطاع أن ينجو من أهوالها. وسيسهم توفير بنية تحتية نشطة اقتصادياً وموجّهة نحو قطاع الخدمات، وأوضاع إعادة الإعمار، واحتمال مشاركتهم في حكم أنفسهم بأنفسهم، في تسهيل عودة اللاجئين إلى أوطانهم بصورة آمنة.
الاستقطاب
المشهد الإنساني | المشهد السياسي | المشهد الجيوسياسي
يساهم التكوين الاجتماعي للسكان في نشوء الاستقطاب الاجتماعي وتراكبه. وفيما يبدو الاستقطاب ظاهرة عالمية، يمكن القول إنه ليس في العالم منذ العام 2011 منطقة مجزأة ومبعثرة كالشرق الأوسط. ومع أن التفاصيل المحددة تختلف من بلد إلى آخر، فإن الفضاءات المتاحة للأصوات المعتدلة انحسرت بصورة عامة. وقد مكّن إغلاق الزعماء العرب للفضاء العام وتجنّب أصوات الانشقاق الجانبية من تكريس ممارسات النظم الحاكمة السلطوية، وأجهزة المحسوبية والمحاباة والاستدراج، وفاقم الضعف العام الذي تشكو منه تيارات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، والفضاءات العامة ذات الطبيعة المنقسمة على ذاتها إيديولوجياً. ونتيجةً لذلك، لم يبق للفاعلين السياسيين والمواطنين على السواء سوى مجال ضيّق لإجراء التفاهمات والمصالحات، واضطر هؤلاء إلى الاختيار بين دعم الحكومة أو معارضتها أو الذهاب إلى نقطة أكثر خطراً، وهي تبنّي أو رفض قبول هُويّة طائفية أو إثنية أو قبلية محدّدة.
ومع أن التفاصيل المحددة تختلف من بلد إلى آخر، فإن الفضاءات المتاحة للأصوات المعتدلة انحسرت بصورة عامة [منذ العام 2011].
يمكن تقسيم الاستقطاب في المجتمعات العربية إلى فئتين عريضتين. الأولى إيديولوجية تتجلى في القوى الدينية والعَلمانية، وتتمثّل في التجارب المختلفة التي تعرضت إليها مصر وتونس بعد العام 2011. ففي مصر، حاولت القلة الأوتوقراطية العسكرية إقناع الجماهير بقبول الاستقرار والأمن عوضاً عن التعددية السياسية والحريات الشخصية. غير أن الإجراءات القمعية، مثل الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان، وسن قوانين جريئة بطريقة غير ديمقراطية، ومنح المؤسسات الدينية والعسكرية صلاحيات لا رقيب عليها، ضاعفت من الانقسامات الاجتماعية الطويلة العهد وأفضت إلى المزيد من العنف.
في المقابل، وعلى الرغم من أن الانتفاضة الشعبية التونسية لم تُترجم تماماً إلى ثقة جماهيرية بالمؤسسات السياسية، فقد حققت البلاد نجاحاً مهمّاً في خلق الإطار اللازم لوضع نظام دستوري جديد يوحّد بين القوى العلمانية والدينية ويؤمن للمواطنين النفاذ إلى فضاء عام مليء بالحيوية يمكن فيه النظر إلى التظلّمات الاقتصادية، والتوترات الاجتماعية، وقضايا الهوية، والأهداف السياسية. وستُظهر الأيام ما إذا كان من المستطاع تعميق مأسسة روح المصالحة النادرة الي أبدتها النخبة السياسية التونسية خلال الفترة الانتقالية بعد العام 2011، أم أن تزايد الخوف من الإرهاب والعنف السياسي، والغوغائية الإيديولوجية قد حقنتا جرعة من العوامل المدمّرة في السياسة التونسية.
أما الفئة الثانية الأكثر عنفاً فتتمثل في الاستقطاب السياسي، الذي صاحب الاضطراب السياسي في المُجتمعات المُنقسمة إثنياً أو دينياً. ويمكن استغلال هذا الاستقطاب، بوصفه أداة سياسية مؤثرة، لتوفير كبش فداء، أو مَشجب تُعلَّق عليه السقطات الاقتصادية الاجتماعية، وتؤلّب عليه القواعد الشعبية الأساسية. وفي بلدان مثل العراق وسورية، تمّ في بعض الأحيان ضخّ جرعات من التطرُّف في الخطاب التحزّبي لدرجة إضفاء الشرعية على العنف السياسي أو المذهبي، ما شكّل أرضاً خصبة للتطرّف والإرهاب. وقد تباينت النتائج بين تصاعد وتائر التوتر الطائفي في البحرين ولبنان، وبين نشوب حروب أهلية وانهيار الدولة في العراق وسورية.
ففي العراق، أسفرت السياسات الطائفية عن بروز فراغ أهلي وخلل في السياق الاجتماعي الذي كان يفضي إلى العنف والإرهاب. وقد أدت النزاعات المستمرة للاستحواذ على الموارد الاقتصادية والتمثيل السياسي بين المجتمعات الكردية، والشيعية، والسنّية إلى خلق ملاذات آمنة لتنظيم الدولة الإسلامية، ودفعت جماعات اجتماعية أخرى تسعى إلى استغلال الانقسامات الطائفية، ومنها قوات الحشد الشعبي، إلى تبنّي استراتيجيات عنيفة مماثلة.
أما في سورية، أسفر نظام المحسوبية القائم على أساس طائفي، وطبيعة نظام بشار الأسد القمعي، عن انعدام الثقة الشعبية تقريباً بمؤسسات الدولة وحيادها. فقد انهارت فكرة وجود هوية وطنية سورية ومعها مفاهيم المواطنة الحديثة القائمة على المساواة في الحقوق والاستحقاقات للسوريين كافة. وقد أدّى تدمير النسيج الاجتماعي للبلاد والشرذمة الظاهرة في ما كان دولة سورية موحّدة، إلى توليد واقع جديد يضم إقطاعيات قامت على أنقاضها.
أما البحرين فهي اليوم أهدأ مما كانت عليه في العام 2011، عندما تظاهر عشرات آلاف المواطنين (وهو عدد ضخم في بلد يضم 1.3 مليون نسمة)،41 قبل أن تتصدّى لهم وتقمعهم قوى الأمن، بدعم قوي من المملكة العربية السعودية وبلدان الخليج الأخرى. بيد أن الفجوة لازالت آخذة بالاتساع بين الأقلية السّنية الحاكمة والأغلبية الشيعية المحرومة، ويبدو أن استقرار البحرين المعهود منذ أمد بعيد بدأت تظلله الشكوك إلى حد ما. وفي لبنان، غالباً ما يحتدم الصراع بين جماعات طائفية أو بين ممثليها السياسيين تحديداً، حول توزيع الموارد المحدودة والانتماءات الإقليمية المتنافسة. وأدّى الاستقطاب الناجم عن ذلك إلى إضعاف مؤسسات الدولة، وولّد الشك السياسي، ووسّع الفجوة بين السكان اللبنانيين والطبقة السياسية التي تحكمهم.
ومع قلة المداخل المؤدية إلى التعبير السياسي، تفسح أنظمة الحكم الاستقطابية المجال أمام هيمنة الأصوات الرافضة، ويصبح الخطاب السياسي المتطرّف مدخلاً محتملاً إلى تجذّر التطرف الديني.
ومع قلة المداخل المؤدية إلى التعبير السياسي، تفسح أنظمة الحكم الاستقطابية المجال أمام هيمنة الأصوات الرافضة، ويصبح الخطاب السياسي المتطرّف مدخلاً محتملاً إلى تجذّر التطرف الديني. وما لم تعتبر عمليات الانتقال الديمقراطي عقوداً اجتماعية جديدة مبرمة بين المؤسسات الحاكمة والمواطنين للتغلب على التظلّمات الاقتصادية ونواحي العجز في منهج الحكم، فإن التطرّف والإرهاب قد يصبحان أكثر استهواء للجماعات المهمشة والمحرومة.