الضيّق المزدحم، حيث تصطف السيارات المركونة في صفَّين متلاصقَين، وننجح وأخيراً في الوصول إلى المدرسة.أشعر بأننا محظوظون لأنه يُتاح لولدَيّ، على النقيض من معظم الأولاد في بيروت، الاستمتاع بـ”مساحة خضراء” في المدرسة، ويمكنهما الخروج للعب في الهواء الطلق في بحر الأسبوع. لكن الأمر مختلف في عطلة نهاية الأسبوع. فنظراً إلى قلة المساحات العامة في المدينة، وبما أن المشاريع الخاصة تُحكِم أكثر فأكثر قبضتها على شاطئ المدينة، سأجد نفسي مضطرةً إلى إقناع عائلتي بمغادرة المدينة والتوجّه نحو المناطق الجبلية. ولن تكون مهمّة سهلة، بعدما أمضينا ثلاث ساعات عالقين في زحمة السير الخانقة في طريق العودة إلى المنزل نهاية الأسبوع الماضي. أتخيّل المشهد منذ الآن: ولداي يتذمّران في المقعد الخلفي ويردّدان أنه كان من الأجدى بهما قضاء يوم الأحد في اللعب بالـ”بلاي ستيشن” بدلاً من تمضية الوقت على الطريق وسط زحمة السير، وزوجي وأنا نردّد اللازمة الأزلية نفسها عن تحوُّل بيروت مدينةً لا يُطاق العيش فيها. وسوف نتّفق مع جيراننا وأصدقائنا، وحتى وزرائنا وممثّلينا في الندوة البرلمانية، على أنه “لا دولة في لبنان”، وأنه من الطبيعي تالياً ألا يكون هناك تخطيط لأي شيء على الإطلاق، وأن كل ما هو “عام” في بيروت سيئ للغاية… سوف أبذل جهدي لتجنّب اندلاع شجار في حال أصبحت قيادة السيارة مشحونةً بتوتّر شديد.
تُترجَم تجربتي في تنشئة ولدَين في بيروت، في نظرتي إلى التزامي المهني بوصفي أستاذة لمادّة التخطيط المديني، ومعلّمة، وباحثة، ومهنية، وناشطة. تلك الجوانب الخمسة في حياتي تُترجَم في التزام واحد: تحويل المدن اللبنانية أماكن جامعة وصالحة للعيش. لكن ما تعلّمته خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، هو أن التحدّي ليس تقنياً. بل إن النقص الشديد الذي تعانيه بيروت في البنى التحتية للمرافق العامة يُظهر كيف أن المسؤولين عن التخطيط والسلطات البلدية يتصرّفون كأن دورهم هو تيسير حفنة من المصالح الفردية، بدلاً من أن يعملوا من أجل الخير العام. وهكذا يُقدِّمون باستمرار مصالح جهات خاصة مالِكة ألاراضي على مصالح جميع سكّان المدينة، حتى ولو اقتضى ذلك، كما شهدنا قبل فترة وجيزة، البناء على رمال الشاطئ العام الوحيد المتبقّي في بيروت، أو إنشاء مركز تجاري في الجهة الخلفية لصخرة الروشة، أو قطع الأشجار والقيام بأعمال بناء في حرج بيروت. وفي حين أننا قد نتفهّم أن يسعى المطوِّر خلف تحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح الشخصية، يُتوقَّع من المؤسسات المسؤولة عن التخطيط ضبط هذه النزعة الفردية من خلال الإقرار بأنه لا بد للخير العام من أن يعلو فوق أي اعتبارات شخصية، وإعطائه الأولوية باسم المجتمع ككل. هذا هو التفويض المنوط بسلطة الدولة: حماية المساحات المشترَكة في مدينتنا، والخصائص التي تجعل منها مكاناً صالحاً للعيش، وتعزيز نوعية الحياة من خلال التدخلات المباشرة، وعبر إشراك المطوّرين وجعلهم شركاء يُقدّمون شيئاً ما في المقابل للمدينة في إطار كل مشروع جديد ينجزونه: حديقة صغيرة، وحدات سكنية بأسعار معقولة، محطة للباصات، أو سواها من الحاجات. هذا هو الأساس الذي تنطلق منه السلطات المدينية حول العالم، وليس من سبب يحول دون أن نحذو حذوها في لبنان.
أدرك أنني أتشارك خبرتي من منطلق كوني أمّاً أعيش في بيروت مع آلاف الآخرين من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين وأثيوبيين ومسيحيين ومسلمين، سنّة وشيعة، ودروز، ونساء وعمّال ومهنيين وربات منازل بروتستانت وارثوزكس وكاثوليك وموارنة، يعانون نقص المساحات العامة، والأرصفة المتداعية، وغياب النقل العام، وتلوّث الهواء والمياه، وتردّي مستوى المدارس الرسمية، وانعدام خيارات الرعاية الصحية العامة، وسواها من المشكلات. إذاً كي أشقّ مساراً نحو تحقيق التزامي بجعل مدينتنا مكاناً أكثر ملاءمة للعيش، أبذل مساعي حثيثة، من خلال الجهود الشخصية والجماعية، من أجل الدفع باتجاه تنفيذ رؤيةٍ لبيروت تجعل منها مدينة جامعة وصالحة للعيش ومستوفية معايير الصحة والسلامة، وكذلك من طريق استخدام المعارف والبحوث القائمة لتخيّل المسارات التي يمكن من خلالها تنفيذ هذه الرؤية. لقد جمعنا، على مر السنين، مقترحات ملموسة لبناء وحدات سكنية مناسبة لمختلف الفئات، وتحسين المستوطنات غير النظامية، وإنشاء منظومات مشتركة للنقل وشبكات مدينية خضراء، وجعل الواجهة البحرية مساحةً مفتوحة، وتفكيك الأمن العسكريتاري الذي يتسبب بزحمة سير خانقة في شوارع بيروت، وغير ذلك.
في السياق اللبناني حيث تُمارَس “السياسة” من طريق تأجيج الخلافات وإذكاء المخاوف لإقناع الناس بأنه لا مفر من الاستاتيكو الذي نعيش فيه، أعتقد أن العمل على تنفيذ الرؤية المشتركة عن بيروت التي نتطلع إلى العيش فيها، يساهم في ترسيخ نوع مختلف من السياسة، يُتيح للأشخاص الالتقاء معاً، بغض النظر عن انقساماتهم، لأنهم يصبحون قادرين على وضع تصوّر عن مستقبل جماعي أكثر إشراقاً يلتئم فيه الشمل ويشارك الجميع في صناعته. وأؤمن أيضاً بضرورة بناء المؤسسات التي يمكن أن تتيح ممارسة هذا النوع من السياسة، سواءً كانت عبارة عن تيارات سياسية، أو حملات ناشطة في المدينة، أو برامج بحثية وتعليمية في الجامعات. بوصفي أستاذة جامعية في الجامعة الأميركية في بيروت وناشطة في حملة “بيروت مدينتي”، هذه هي مساهماتي من أجل إطلاق منظومة مترابطة للتغيير، تشجّع على تكوين “نحن جماعية” يمكن، من خلالها، بناء مدينة جامعة وعادلة وتحويلها واقعاً ملموساً.