الرئيسية / مقالات / أمريكا: عن وهم التحالف بين السود واليهود

أمريكا: عن وهم التحالف بين السود واليهود

 


مالك التريكي
Apr 07, 2018
القدس العربي

 

أحيت أمريكا ومعظم البلاد الغربية في الرابع من هذا الشهر الذكرى الخمسين لاغتيال داعية الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينغ. قبل يوم واحد من الاغتيال ألقى كينغ في مدينة ممفيس، بولاية تنسي، في قلب الجنوب الأمريكي المتجذر في تقاليد الاستعلاء العنصري، خطابا عظيما بعنوان «لقد بلغت قمة الجبل»، يرى بعضهم أنه يتضمن نبوءة مقتله. ولمارتن لوثر كينغ خطب عظيمة أخرى، مثل خطاب 4 ابريل/نيسان 1967 الذي أعلن فيه، من نيويورك، مناهضة الغزو الأمريكي لفيتنام. أما أعظم خطبه وأشهرها على الإطلاق، فهو ذلك الذي ألقاه يوم 28أغسطس/آب 1963 في واشنطن بمناسبة الذكرى المئوية لإلغاء الرق في أمريكا،والذي ثنّى فيه على الدعوة المبدئية لاستئصال سرطان العنصرية من المجتمع الأمريكي بالدعوة الجريئة لتحرير السود من مهانة الفقر والبطالة ومنحهم فرصا متكافئة مع البيض في مجال السكن والتعليم والعمل.
وليس الغرض من التطرق لذكرى كينغ التعريف بنضاله البطولي ضد ثقافة العنصرية، فذلك معروف، بل إنه مصدر شهرة الرجل. وإنما الغرض هو التأشير إلى جانبين في سيرته ليسا بالضرورة معروفين على نطاق واسع عربيّا. الأول هو تميزه في فن الخطابة. فقد كان من القلائل الذين تنطبق عليهم انطباقا حرفيا عبارة»الخطيب المفوّه»، القادر على أن يهزّ وجدان الجمهور بالتأليف بين جلال المعاني وجمال القول المسبوك سبائك من ذهب. وقد تتبعت على مدى السنين ما نشر عن خطباء اللغة الانكليزية فوجدت اتفاقا بين الباحثين على أهم الأسماء، وشبه إجماع على أن الخطيب الأول والأفضل في القرن العشرين إنما هو ونستون تشرشل. وقد صح فيه قول المذيع الأمريكي الشهير ادوارد مارو بأنه «جنّد اللغة الانكليزية وعبأها لخوض الحرب». إلا أن معظم الباحثين قد أغفلوا حقيقة هامة، وهي أن تشرشل لم يكن خطيبا جماهيريا، وإنما كان كاتبا واسع الثقافة عليما بطرائق البيان، تأتي عباراته نفّاذة أخّاذة من فرط براعته في التركيب والتنسيب اللذين تتقوّم بهما كيمياء البلاغة.
أما الإلقاء البديع المجنّح في أعالي السمو والإطراب فهو بلا ريب من نصيب خطيب أوحد لا يضاهى. إنه كينغ: صوت جهوري وقول سديد، مع أستاذية في الوقف والتلوين وتفنن في التعبير الإعاديّ المؤثر. حسبك أن تتذكر الأثر الناجم عن عبارة «يراودني حلم» التي ظل كينغ يرددها، في خطاب 1963، لازمة ناظمة لمقاطع متواشجة كأنها أبيات القصيد. ورغم أني استمعت لهذا الخطاب المسجل عشرات المرات فإن تأثيره فيّ يتجدد كل مرة، بل إن رد فعلي العفوي في الأغلب هو أن أهتف: الله أكبر. وها إن وزيرة العدل الفرنسية السابقة كريستيان توبيرا قد قالت قبل يومين الشىء ذاته، وزادت: «ما سمعته مرة إلا فاضت بالدمع عيناي».
ومع هذا كله، فان داعية الحقوق المدنية لم يكن متعاطفا مع القضية الفلسطينية، بل إنه كان مؤيدا لإسرائيل. ومن أقواله المعروفة: أن «الذين ينتقدون الصهاينة إنما يعنون اليهود. إنهم يخوضون في اللاسامية»، وأن «على العالم أجمع أن يدرك أن إسرائيل ينبغي أن توجد وأن لها الحق في الوجود، وأنها من القواعد الأمامية العظيمة للديمقراطية في العالم». كما أنه عبر عن ابتهاجه بالنصر الإسرائيلي في حرب 1967. تلك هي حقيقة كينغ التي كان ادوراد سعيد قد نبه إليها منذ أمد بعيد.
تفسيران على الأقل. الأول هو أن كينغ رجل دين معمداني، أي أن تجذره في لاهوت العهد القديم يجعل منه مسيحيا صهيونيا بمقتضى الأمر الواقع. التفسير الثاني أن كثيرا من اليهود الأمريكيين قد أيدوا حركة الحقوق المدنية وكانوا من أخلص أنصار كينغ. إلا أن السردية الشائعة عن التحالف شبه الطبيعي بين السود واليهود في أمريكا هي محض وهم. ولكنه وهم مسيطر لأنه مستمد أوّلا من الميل الأمريكي إلى النظر إلى المجتمع من زاوية إلزامية، أو أوتوماتيكية، الاتحاد بين جميع الأقليات ضد طغيان الأغلبية، وثانيا من الخلط بين الوضع الظرفي المؤقت الذي ساد أثناء حملة الحقوق المدنية، من الخمسينيات حتى السبعينيات، وبين الوضع العام كما يتجلى منذ أوائل الثمانينيات، أي تفاوت المواقع وتباين المصالح بين الأقلية اليهودية المنعّمة والمتنفذة وبين الأقلية السوداء المهمشة والمكبلة بأغلال التفرقة العنصرية التي لا تزال واقعا يوميا قاهرا رغم مضيّ عقود على تحريمها بنص القانون.

٭ كاتب تونسي

اضف رد