09-02-2023 | 00:00 المصدر: “النهار”
بشارة نمّور مع ابنه ريتشارد.
رؤوف قبيسي
بين أسماء بعض الفنادق في لبنان، وأسماء أصحابها أو مؤسسيها ترادُف، وشيء من تداعي الأفكار والتذكار. إذا ذُكر الراحل #نجيب صالحة على سبيل المثل، تذكًر السامع فندق “#فينيسيا“، وخيالات بيروت في أزمنة عزها، وإذا قيل فندق “#البستان“، تبادر إلى الذهن فوراً اسم صاحبته السيدة ميرنا البستاني. كذلك هي الحال، مع فندق “البرغو”، وصاحبه رجل الأعمال الصيداوي المثير للدهشة والجدل، #بشارة نمور.
في “النبي” يقول جبران: “الحياة لا تعود القهقرى أبداً”، وبرغم ما أصاب اللبنانيين من خيبات، وما لحق ببلدهم من نكسات وكوارث، افتعلها حكام فاسدون أغبياء، وطبقة من أصحاب المصالح، تناصرهم عشرات الألوف من الخراف الضالة السائرة وراء رعيانها بعماء، هناك لبنانيون عاقلون، متفائلون دوماً. أوفياء لبلدهم، حرصاء على أن يظل شامخاً كأرزه الخالد. لم يصفقوا في حياتهم لزعيم، ولم يشاركوا في الحروب والموجات البدائية التي تخرب البلاد، وتعبث بالعقول والضمائر، وتفقد المرء توازنه النفسي ورشده. يحبون وطنهم حتى العبادة، كما لو أنهم يرددون في أفئدتهم قول الراحل أمين تقي الدين في شعره: “إذا قيل لبنان قُل موطني/ وصلِّ له واسجُدِ”، وينشدون مع فيروز الرسولة، أغنيتها عن لبنان الكرامة والشعب العنيد، “بحبك يا لبنان يا وطني بحبك، كيف ما كنت بحبك، بجنونك بحبك”.
هل اللبنانيون شعب عنيد و”مجنون”؟ هناك مثل إنكليزي يقول: “ليس من الضروري أن تكون مجنوناً، لكن في الجنون بعض الفائدة”! لا شك في أن اللبنانيين شعب عنيد، وفي خصاله شيء من “جنون”. هذا “الجنون”، قد يتمثل بحرب أهلية تفتك بالبشر والحجر، ويتمثل في الوقت عينه، بقدر كبير من نكران الذات وجنون التضحية، وارتباط بالأرض وإرادة لا تعرف الفتور، وإنجازات لا تعد ولا تحصى في ميادين الفكر والفن والأدب والشعر والغناء، والرسم والتصوير والمسرح والموسيقى، كأن قدر هذا البلد الصغير أن يكون مجلياً متقدما في حقل، متخلفاً متراجعاً في حقل آخر!
بشارة نمور من اللبنانيين الذين لا يعيرون لخيبات الأمل حساباً. يعيشون في قلب لبنان، ويسعون إلى أن يساهموا في عودته كما كان ذات يوم. يصرّ على القول إن لبنان قد يتعثر، مثله مثل أي بلد في العالم، لكنه لا يلبث أن ينهض بفعل قوة كامنة في روح شعبه، المحب للعيش والحياة، كأجمل ما تكون الحياة. كل ما هو مطلوب في رأيه، أن يكون البلد في مأمن من المخاطر، وأن تديره طبقة مسؤولة من أصحاب النفوس الأبية والعقول الجدية.
.jpg)
بشارة نمور عنيد ومغامر و”مجنون”، لبناني بامتياز! من خلف بساتين البرتقال والزيتون أتى، من “صيدا” التي وُلد فيها سنة 1946 ونشأ وترعرع، إلى العاصمة بيروت، حيث درس الحقوق في جامعتها اليسوعية، ومارسها محامياً نحو سبع سنوات، قبل أن تأسره ثقافة الضيافة، فإذا نتيجة هذا الهوى مجموعة مطاعم ومتاجر راقية، أضفت زيْنة على ليالي بيروت، ولمسات من اناقة، اختبرها كل من زار تلك المواقع في مناطق مختلفة من العاصمة. يرفض بشارة نمور الذي أطلق على مطاعمه ومتاجره أسماء أجنبية القول إنها تقليد أعمى لما هو غربي، ويقول: “هي من هذا وذاك، وفي النهاية هي لبنانية خالصة، تمثل ثقافتنا الشرقية المتوسطية الرحبة والمختلفة الألوان”، ويردّ على من يسأله عن طبيعة مطاعمه وجنسيتها بسؤال: “أما كان لبنان في الستينات ومطلع السبعينات مميزاً في هذه المنطقة العربية، وفريداً من نوعه على سواحل المتوسط الخلابة؟”.
لم يكفِه يوم تخرج في الحقوق، أن يمارس المحاماة، فبدأ يعمل في مشروع استصلاح الأراضي الزراعية في مدينته صيدا، وتأسيس متاجر الحلويات الشهية (باتيسيري) ومحلات المأكولات الراقية، ومنها متجر “غوديز” الذي أسسه في الشطر الغربي من بيروت، بالشراكة مع عائلة الحلواني، لكن الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975 دفعته في السنة 1979 إلى الرحيل إلى الولايات المتحدة، ليستقر في العاصمة واشنطن، ويدشن فيها مجموعة من 20 مطعماً صارت حديث مجتمع تلك المدينة، ونقلت أخبارها وسائل إعلام راقية مثل صحيفة “الواشنطن بوست” ومجلة “فوربس”، و”ناشونال جيوغرافيك” وصحيفة “لوس أنجلس تايمز” ودورية المتحف الوطني للتاريخ الأميركي، وغيرها من صحف أجنبية مثل “لوموند” و”فوغ”. لم تكفِه واشنطن، فكان لا بد من الذهاب إلى باريس التي دشن فيها ثلاثة فنادق بالقرب من جادة الشانزيليزيه. بعدها سافر إلى مصر، وأنجز مشاريع عدة، منها سلسلة مطاعم النيل الأزرق (بلو نايل) بالشراكة مع رجل الأعمال المصري المعروف نجيب ساويرس، وتأسيسه مجموعة من المطاعم الأخرى بالشراكة مع رجل الأعمال الكويتي يعقوب الحميضي. تضع الحرب الأهلية اوزارها فيعود إلى لبنان في العام 1992 ويؤسس سلسلة واسعة من المطاعم السخية بأثاثها وأشكالها وأطعمتها المختلفة الجنسية، وسلسلة من متاجر الحلويات التي تعكس طبيعة ثقافته في التذوق الرهيف، وعينه التي تلحظ تفاصيل الأشكال ودقائق الجماليات.
.jpg)
اليوم، في حي أنيق من أحياء منطقة “الأشرفية” يدير بشارة نمور فندقاً من 33 جناحاً هو الأجمل بين فنادق تلك المنطقة من بيروت. إسمه “البرغو”، والكلمة جذرها جرماني الأصل، ومعناها ثكنة الجنود، وبعد انتسابها إلى الإيطالية، تغير المعنى وصار بيت السكن، “لوكنده” صغيرة جميلة حميمة من “اللوكندات” التي اصطلح على تسميتها في لغة السياحة العالمية بفنادق “البوتيك”. في ماض بعيد، كان “البرغو” داراَ قديمة بُنيت في العام 1930، وكانت تسكنها سيدة لبنانية تدعى تيريزا قرم، المعلمة في مدرسة راهبات “البيزنسون” وبقيت فيها إلى العام 1980، حين اقتناها نمور في فترة هدوء قصيرة من سكوت مدافع الحرب الأهلية، حتى إذا حلّت تباشير السلم الأهلي مع مطالع التسعينات، حوّلها إلى فندق “البرغو”، وكان قد سبق هذا الفندق بسنوات، افتتاح مطعم “Aldente”.
تدلف إلى بهو الفندق الحميم، فتستقبلك وجوه مبتسمة من العمال والموظفين، يحلو لنمّور أن يسميها عائلته. هي عائلته الثانية من غير شك، يمضي معها شطراً من النهار وجزءاً من الليل، ساهرا على كل صغيرة وكبيرة، حتى إذا تقدم المساء، ذهب إلى بيت العائلة في الأشرفية حيث شريكته في الحياة والعمل السيدة ريتا أبيلا، وأولاده: شوكت (37 سنة) وريتشارد (36 سنة) وديفيد (34 سنة)، وكريمته إليزابيت (26 سنة). إلى جانب “البرغو”، يملك نمور متاجر “La Mie Dorée” ويشارك في ملكية مجموعة مطاعم (Paul) في لبنان، التي كان أسسها في العام 2000.
يبقى السؤال: هل المحامي ورجل الأعمال، وصاحب المشاريع المتعددة هو “كل” بشارة نمور؟ الجواب هو “لا”، ليس هذا هو “كل” الرجل. هناك أيضاً رجل العلاقات العامة الذي يعرف الناس كل الناس، والقارئ النهم، والمحب للشعر، العامي منه بنوع خاص. وهناك أيضاً ميزة الفرادة في الاداء. ففي حين تكون بعض المشاريع “خبطات” يكتنفها قدر من الجرأة و”الجنون”، خصال ليست غريبة عن الرجل على أي حال، تتمثل الفرادة عند نمور في الركض السريع خلف المشاريع المجدية، وتنفيذها بسرعة. تقول العرب في الأدب القديم: “الشيء من معدنه لا يُستغرب”، وقد يكون الركض قدره مذ كان صبياً يافعاً، ففي العام 1962، حاز لقب بطل لبنان في الركض السريع، وله من العمر 16 سنة، وبقي يحتفظ بهذا اللقب إلى العام 1968. اليوم، وبعد أن خانته قدماه وتجاوز الخامسة والسبعين، لم يعد يركض كما في الماضي، لكنه بقي يفكر كما لو أنه في مقتبل العمر، ولا أحد يدري متى، وأين ستكون “خبطته” الجديدة في عالم المال والأعمال، وحقل المطاعم والفنادق!
في مسيرته الصعبة والغنية، نفّذ بشارة نمور عشرات المشاريع، لكن يبدو أن “البرغو” استراحته الأثيرة، ودرّة أعماله. في الكتاب الفاخر الأنيق الذي طبعه عن الفندق بالفرنسية والإنكليزية، وأنفق عليه بسخاء، سطور موجزة عن تاريخ “الأشرفية” في القرن التاسع عشر، وكيف كان أهلها وكانت مبانيها، ومنها الدار الأثرية التي أصبحت “البرغو”، وصور عن المطاعم والمسبح والشرفات والحدائق الغنًاء، نزولاً إلى الطبقات المؤلفة من 33 جناحاً، لكل منها سكينته ومناخه الخاص، وأثاثه الفاخر المميز والمختلف عن غيره، وما في الأمكنة من صور ولوحات ومصابيح وآنية، وكتب وثريات وسجاجيد أثرية، ورسوم شرقية وغربية، تمثل نماذج حضارات ومدنيات صينية وافريقية، وفارسية وعثمانية وعربية وأوروبية، إلى جانب عاديات متعددة، جمعها بشارة وريتا نمور، من أسفارهما المختلفة في القارات الخمس.¬¬
بقي من الحق أن نقول، إن من حسن طالع “الأشرفية” والذاكرة الجماعية لمدينة بيروت، أن يتواجد في لبنان مواطنون مثل بشارة نمور، وزوجته ريتا، وأبناؤهما الأربعة¬¬¬¬¬¬، ومعهم في التصميم الداخلي سيدات مثل المهندسة طرفة سلام، والمهندسة ماريا عصيمي، يقدرون قيمة ما هو قديم وأثري ويحافظون عليه برموش العيون،¬ بخلاف بعض حيتان المال الذين وفدوا إلى العاصمة الجريحة في غفلة من الزمن، متسلحين بالشيكات العريضة ومعاول الهدم، فأنزلوا بجسد بيروت وروحها النازلات، وأتوا على مواقع كانت تختزن ملامح تاريخية أثيرة من مدينتنا الجميلة، (Our Old beautiful Beirut) وأقاموا مكانها أبنية باردة لا روح فيها، ولا تشفي غليل مثقف قدير أو فنان مرهف. فعلوها لخدمة أغراضهم الخاصة، وخدمة من كانوا يتعاونون معهم من أحزاب السياسة، وإرضاءً لنزوات عشاق المظاهر، ومحبي القيل والقال، وهواة طقطقة النرد، وقعقعة الكؤوس وقرقعة النراجيل!