- المصدر: “أرشيف “النهار”
- 10 آذار 2019 | 08:00
نستعيد في #نهار_من_الأرشيف مقالاً كتبه أسعد الخوري في “النهار” بتاريخ 6 حزيران 2015، حمل عنوان “ميشال عفلق في خطبة الوداع”.

صدر أخيراً كتاب بعنوان “العروبة ولبنان”(■)، تضمّن مقالات في القومية والعروبة، تحلّل وتناقش مرحلة وتوجهات حزبية وسياسية في المنطقة خلال عقود خمسة ماضية. بعض الكتّاب كانوا من أوائل قادة حزب البعث العربي الاشتراكي: نقولا الفرزلي، وعاصم قانصوه، إضافة الى المفكر القومي الدكتور رغيد الصلح، وواضع الكتاب واصف شرارة الباحث في المجال القومي العربي.
عاش ميشال عفلق سنوات عديدة فاعلة في لبنان. كلما ضيّقت عليه سلطات دمشق يحل “ضيفًا” على العاصمة اللبنانية التي تحوّلت ما بين الخمسينات والسبعينات مدينة للجوء السياسي، خاصة من سوريا والعراق ومصر ودولٍ عربية أخرى.
كانت لبيروت خصوصية يحترمها اللاجئون السياسيون والمفكرون العرب الذين كانوا يمضون نهاراتهم وامسياتهم في مقاهيها وفنادقها من الروشة الى شارع الحمرا. كان عفلق يتميّز عن سواه من المفكرين العرب. لم يُشاهد مرة في مقهى أو مكان عام. عاش حياة الزهد والتقشّف وكرّس حياته للعمل الحزبي الرصين والفاعل.
كان مؤسس “البعث” يحظى بأحترام مميّز. هو صديق ورفيق لنخبة من المفكرين القوميين العرب بينهم الدكتور عبد المجيد الرافعي (عضو القيادة القومية للحزب وأمين سر قيادة قطر لبنان حاليًا) والمهندس نقولا الفرزلي، والدكتور بشير الداعوق، والمهندس خالد يشرطي وآخرين.
في العام 1943 عندمانال لبنان استقلاله واعتقلت سلطات الانتداب الفرنسي الرئيس بشاره الخوري والرئيس رياض الصلح وأبطال الاستقلال الآخرين، أصدر عفلق من دمشق بيانًا في 14 تشرين الثاني 1943 يدين عملية الاعتقال ويدعو للإفراج فورًا عن المعتقلين في قلعة راشيا، وقّعه مع رفيقه صلاح الدين البيطار. وختم ذلك البيان بعبارة صارت جزءًا من التاريخ العربي الحديث: (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) كما أصبحت شعار حزب البعث الذي أسسه ميشال عفلق عام 1947.
في مقال لنقولا الفرزلي عنوانه “الأستاذ ولبنان” كتبه في 28 تموز 1989، لمناسبة مرور أربعين يومًا على رحيل عفلق يقول: “في البدايات الأولى كان مؤسس البعث يواجه تحديات الوضع اللبناني من خلال الحوارات الفكرية الطويلة والعميقة مع قادة الأحزاب والتيارات السياسية المتصارعة في لبنان… وكم كان اعتزاز البعثيين عظيمًا بأستاذهم عندما يرون أو يسمعون أصداء تلك اللقاءات التي تنتهي دائمًا، وبدون استثناء بتسليم الجميع بصحة عقيدة البعث، وإذا كان هناك من تحفّظ أو اعتراض فإنه يدور على الشكليات ولا يقترب من الجوهر”.
ويروي قريبون من عفلق أنه كان يلتقي قيادات لبنانية بارزة للحوار والنقاش في قضايا الأمة، ومن بينهم الشيخ بيار الجميل الذي كان عفلق يلتقيه في مكتبه بالصيدلية التي كان يملكها الجميّل في بيروت.
كما يروي هؤلاء نقلاً عن عفلق، أنه مع رفيقه وصديقه صلاح الدين البيطار كانا يستمعان عبر الراديو الى وقائع الانتخابات الرئاسية في لبنان عام 1952، وعندما أُعلِن انتخاب كميل شمعون رئيسًا، بدا عفلق والبيطار سعيدين بانتخاب “فتى العروبة الأغر”.
في حزيران 1985 وجّه عفلق نداءً (من أجل مشروع قومي مستقبلي) حيث دعا بين 19 و23 تشرين الأول 1986 للقاء في باريس ضمّ نخبة من الوجوه العربية المؤمنة بضرورة قيام عمل عربي قومي يتعدى الانقسامات القائمة. حضر اللقاء الى عفلق نفسه: عبدالله ابراهيم (المغرب)، طارق عزيز، لطفي الخولي، بدر الدين مدثّر، أمين شقير، حميد سعيد، نقولا الفرزلي، زيد حيدر، ناصيف عواد.
ثم تكرّر اللقاء عام 1987 بحضور مزيد من المفكرين العرب. وفي ملخص اللقاءات كما ورد في البيان الرسمي للمجتمعين ان “النداء في حدّ ذاته يرسم خطوطًا موضوعية للوضع العربي الحاضر، وهي خطوط محزنة… ولكن هناك إرادة عربية قادرة على مواجهة الصعاب…”.
ومن المؤكّد أنّ النداء القومي الذي أطلقه عفلق بسبب تردّي الأوضاع العربيّة بشكل عام وغياب الحزب عن أيّ دور فاعل في مصر والجزائر والمغرب… فانّ الرئيس صدّام حسين كان أوّل من اتّصل بميشال عفلق وأوفد اليه الدكتور الياس فرح أحد مفكري الحزب البارزين (من سوريا) الذي التقى عفلق في باريس حاملاً اقتراحًا من الرئيس العراقي يخوّل الأمين العام للحزب ميشال عفلق دعوة 200 أو 300 شخصية عربية للقاء ينعقد في بغداد لمناسبة ذكرى ثورة تموز. لكنّ الاجتماعات بقيت تقتصر على العدد القليل من المفكّرين العرب الذين التقوا في باريس.
في آخر خطاب له ألقاه في ذكرى تأسيس الحزب في السابع من نيسان 1989، شدّد عفلق على قضيتي الحرية والديموقراطية. قال عفلق: “كانت عقيدتنا دومًا أن الحرية ليست شيئًا كماليًا في حياة الأمة يمكن الاستغناء عنه، بل إنها أساس هذه الحياة وجوهرها ومعناها”.
وكتب نقولا الفرزلي في هذا الاطار “أن قضية الحرية في فكر عفلق مسألة محورية لا تتغيّر ولا تبتدّل بتبدّل الظروف وتغيّرها. وقد جاء خطابه الأخير أطروحة سبّاقة شاملة في الديموقراطية وأهميتها في العمل العربي المستقبلي، واعتبار الديموقراطية عملية انقاذ للأمة كما هي الوحدة”. كما يروي الفرزلي أن رفاق وأصدقاء عفلق الذين اتصلوا به “مهنئين وداعمين” لمضمون خطابه، سألوه ممازحين: هل هي خطبة الوداع؟ فاجابهم: نعم إنها كذلك!
بعد أقلّ من ثلاثة أشهر وفي منتصف شهر حزيران 1989 كان عفلق “يتمشّى” كعادته مع صديقه نقولا الفرزلي في احدى ضواحي باريس حيث يقيمان. شعر “الأستاذ” بضيق في الصدر. تمّ نقله الى المستشفى العسكري الفرنسي للعلاج. أُخضع لعملية جراحية. لكنه لم يصمد طويلاً. وفي حزيران المقبل تمرّ الذكرى السادسة والعشرين لغيابه… و”الأمة” التي عمل من أجل نهضتها ووحدتها وتقدمها تعيش أسوأ وأحلك أيامها!
■ العروبة ولبنان – نقولا الفرزلي ورغيد الصلح وعاصم قانصوه وواصف شراره – صادر عن “شركة الشرق الاوسط لتوزيع الصحف والمطبوعات” – 2015