- المصدر: أرشيف “النهار”
- 30 أيار 2019 | 06:30

نستعيد في #نهار_من_الأرشيف مقالاً كتبه اميل أبي نادر في “النهار” بتاريخ 2 آب 2001، حمل عنوان “بيت الدين من البطريرك يوسف حبيش إلى البطريرك نصرالله بطرس صفير”.
“ألف عام في عينيك يا الله كأمس الذي عبر”. عام 1833، اي قبل قرنين الا ثلث قرن، حضر البطريرك يوسف حبيش الى بيت الدين، ودشن فيها كنيسة على اسم القديس مارون. ومن 3 الى 5 آب 2001 يحضر البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الى ساحل الشوف ويزور الكنيسة التي دشنها في بيت الدين احد اسلافه قبل مئة وسبع وستين سنة، ويحل ضيفاً على مطرانية صيدا المارونية في مقرها الصيفي. في مقدمة كتاب “البطريركية المارونية، تاريخ ورسالة” الذي صدر بتاريخ 2 آذار 1966، يقول البطريرك صفير: “هذه صفحات وصور منتقاة للتعرف بالبطاركة الموارنة من خلال تلال نصبوا عليها خيامهم في يانوح. والزمن في اقبال، وأودية قبعوا فيها والزمن في ادبار، وما رأوا في مقرها السحيق الا وجه الله. حاولوا التطلع اليه من كوة في قنوبين. زرقاء انفتحت عليهم في السماء، فرفعوا اليها، مع عطور البخور والصلوات ما انبلج في نفوسهم من هموم. وما ساورهم على القطيع الصغير من مخاوف، تغلبوا عليها بما عمر صدورهم من ايمان ينقل الجبال، وبما اوتوه من ارادة قدّت من صخور، نشدوها الرزق الحلال، وكان للملحمة ان تتجدد وان اختلفت اشكالاً وصيغاً… تكرّ القرون وتتكثف الثقافات وراية الجهاد ابداً مرفوعة في سبيل كنزين هما الاغليان، الابقيان: صفاء العقيدة ونشوة الحرية، بدونهما ترخص الحياة وتتفه كل الطيبات”. من البطريرك يوسف حبيش الى البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، في القيادة الروحية مثل ما بين الأمير بشير والرئيس اميل لحود في القيادة السياسية، من مسافة زمنية، مرت فيها القيادتان، والزمن في اقبال حيناً وفي ادبار حيناً آخر، كما يقول صاحب الغبطة عن عهد البطاركة. تعاقب على الكرسي البطريركي في هذه الحقبة، في القيادة الروحية البطاركة: يوسف حبيش من ساحل علما (1823-1845) يوسف راجي الخازن من عجلتون (1845-1854)، بولس مسعد من عشقوت (1854-1890) يوحنا الحاج من دلبتا (1890-1898) الياس الحويك من حلتا (1899-1931) انطون عريضة من بشري (1932-1955) بولس المعوشي من جزين (1955-1975) انطونيوس خريش من عين ابل (1975-1986) نصرالله صفير 1986 والى سنين مديدة. وفي الحقبة نفسها وفي القيادة السياسية وتحت السلطنة العثمانية الامير بشير الشهابي، عهد المتصرفية، وبعد اعلان دولة لبنان الكبير عام 1921، تعاقب على رئاسة الدولة: شارل دباس (1926-1934) اميل اده (1936-1941) ألفرد نقاش 1942 بترو طراد 1943 وفي عهد الاستقلال: بشارة الخوري (1943-1952) كميل شمعون (1952-1958) فؤاد شهاب (1958-1964 شارل حلو (1964-1970) سليمان فرنجية (1970-1976) الياس سركيس (1976-1982) بشير الجميل (1982) امين الجميل (1982-1988) ميشال عون (1988-1989) رينه معوض (1989) الياس الهراوي (1989-1998) اميل لحود (1998-) يتابع المؤرخ في كتابه المذكور، في ما يعود للقيادة الروحية: “وجميع هؤلاء قاموا باعباء المسؤولية، وعملوا من اجل وحدة الصف، وكان هاجسهم الاول استقلال لبنان، فكما استطاع الموارنة، بالرغم مما لاقوه من محن وشدائد في ايام المماليك وخصوصاً في ابان السلطنة العثمانية، ان ينتزعوا الحرية والاستقلال الذاتي، فلم يقبل بطريركهم الفرمان الذي كان الباب العالي يعترف بموجبه بكل بطريرك، لذلك فإنهم ارادوا ان يتابعوا المسيرة ويعملوا ليكون لوطنهم استقلاله التام وان يحافظوا عليه”. واجهت القيادتان الروحية والسياسية منذ تلك الحقبة اعباء وجود غريب على ارض لبنان، من عهد المماليك حتى السلطنة العثمانية، فعهد المتصرفية فالانتداب الفرنسي. وما بزغ فجر استقلال عام 1943 الذي طالما جاهدتا في سبيله، حتى سودت سماءه نكبة فلسطين عام 1948، فألقت بثقلها المأسوي على كل بلاد العرب ولا سيما لبنان، الذي تحمل منها، على محدودية قدراته، ولا يزال، ما يتحمله العرب، كل العرب مجتمعين، على وفرة قدراتهم وغزارة طاقاتهم الاقتصادية وامداداتهم البشرية. عمدت اسرائيل من اجل تثبيت كيانها الى زعزعة انظمة الدول المجاورة. وركزت على لبنان، ذي النظام والديموغرافيا الاكثر تحدياً لكيانها العنصري. وبذلك، ايقظت محلياً واقليمياً ودولياً احلاماً دفينة في الشرق ومطامع كامنة في الغرب، تداخلت جميعها في بلاد العرب وعلى ارض لبنان، حيث تناوبت رياح عاتية، بنكهة مصرية حيناً وعجمية حيناً وسورية – فلسطينية مع كوكتيل عربي في معظم الاحيان، على خلفية مماثلة وهي رفع التحدي المزدوج الذي يشكله لبنان لها نظاماً وديموغرافيا. وكانت كوارث، وكانت هجرة مضنية وتهجير واقتصاد نازف وبؤس. وتأتي زيارة صاحب الغبطة الى ساحل الشوف والجبل، والزمن في اقبال، والحجب في انكشاف، والحرية في استنهاض، والحوار في انطلاق. والزائر الكبير مفعم بتعاليم شارك وبيعته في وضعها، في رجاء جديد للبنان عبر الارشاد الرسولي، برعاية الحبر الاعظم الذي لم يغب ذكر لبنان يوماً عن قلبه ولسانه. والزائر الكبير عائد من زيارة راعوية الى الانتشار اللبناني في اميركا وكندا ينقل منها عن اهلها ضنى الغربة وحنين العودة الى ارض لبنان وسمائه. عائد من روما، حيث تنادى لبنانيون من اربعة انحاء المعمور ليشاركوا تحت قبة مار بطرس في حفل اعلان قداسة راهبة من لبنان، حيث رفعوا الصلوات من اجل ان يبقى لبنان، ارض المحبة والتلاقي والحوار، بلداً للحرية. يعبر صاحب الغبطة ارض الشوف، الساحل والجبل، مرورا بخلده حيث تمثال الامير فؤاد ارسلان ثم مزار سيدة خلدة فبلدة الناعمة التي فتحت اديارها لاستقبال قوافل اللاجئين الفلسطينيين عام 1948، وكان جزاؤها تهجيرا لاهلها، فمدينة الدامور الشهيدة، اولى ضحايا التهجير، التي بدأت ولا تزال تستعيد انفاسها، تلملم الجروح على طريق استعادة سابق عزها وزهوة ايام زمان. يصل موكب غبطته الى “ملقى النهرين” وقد اطمأن الراعي الى ان الخراف باتت في امان وهي تستأنف عودتها الى التراب الغالي، الى اجواء الريف النقية حيث حافظت البيئة في جبل الشوف على براءتها وجمالها. ثم يمر الموكب في بلدة كفرحيم الهادئة الساهرة الامينة حيث يجري استقبال حافل لغبطته وصولا الى دير القمر في ساحة رسمت حدودها بين جامع فخر الدين وكنيسة سيدة التلة، وقاعة “الصمود” وقصر آل باز، هي ساحة الشهيد داني شمعون وزوجته انغريد وولديه طارق وجوليان. ويشق ذاكرة صاحب الغبطة، وسط هتافات المستقبلين في دير القمر، رجع اصداء بعيدة تؤكد مرة اخرى ان التاريخ هو مجرد استعادات تتكرر بين خيام نصبت في يانوح واودية سحيقة في قنوبين، خدرت مسيرة الزمن ريثما يبزغ فجر غد افضل. استعادات بقي الثابت منها، توق مستمر لرؤية وجه الله في وجه كل مواطن ابي حر كريم. يطل الموكب على ساحة بيت الدين، والتمثال النصفي للرئيس الاول لدولة الاستقلال لا يزال غائبا عن قاعدته، والساحة التي كانت تحمل اسمه باتت تحمل اسما اخر. في اجواء ساحة قصر بيت الدين، يسمع ترداد لاغانٍ انشدتها فيروز بالامس في مهرجانات بيت الدين: “القدس لنا … الغضب الساطع آت وانا كلي ايمان”. آت ولما يصل! فهل يبقى صوتا صارخا في الصحراء؟ وفي داخل القصر تتنقل الذاكرة تحت زخرف خشبيات دمشق، من “سيف بونابرت” وجائزة لينين” الى جناح لامارتين ورسائل بالمرستون واحمد باشا الجزار، وتتوقف عند فسيفساءات غنية انقذتها اياد وطنية رؤيوية من براثن العابثين، واحضرتها من دفائن آثار رومانية بيزنطية في ساحل الشوف واودعتها في تأن، حنايا القصر، شاهدة جديدة لتأثير متغيرات الجغرافيا على ثوابت التاريخ. ويصلي صاحب الغبطة في كنيسة مار مارون، بعد مرور زهاء قرنين على تدشينها، ثم الى مطرانية صيدا في بيت الدين، على قمة احدى التلال الكاشفة على الازرق المتوسط في الدامور والواقعة بين البلدتين العريقتين: دير القمر وبعقلين. ويؤم المطرانية على ثلاثة ايام متواصلة، ابناء الشوف والجبل ومواطنون من كل لبنان، من كل الفئات والطبقات، يرحبون بالزائر الكبير ويهللون لزياة كرست التلاقي الوطني الكبير، انطلاقا من جبل تشكل وحدته وحدة لكل لبنان، في وقت تستكمل فيه ترتيبات عودة المهجرين. وتلتقي جهود كل ركائز الوطن مع توجيهات رئيس البلاد عبر وزارة شؤون المهجرين على اعادة ترميم بنيانه وعودة عيش كريم لكل ابنائه. في طريقه الى جزين الجريحة، المناضلة، يمر الموكب على القصر العريق في المختارة، المتداخل، مواقف ورجالا ونضالا في تفاعلات التاريخ وتعرجاته، والمشارك اصلا في خضم المآسي والتجاذبات في شق طريق فريد لوطن هو اكثر من وطن، لوطن رسالة. ومن تلال جزين، حتى اقصى الجنوب، الذي وطئته اقدام السيد وامه العذراء مريم في قانا الجليل، وصور وصيدا، ومن كنيستها مار مارون، يرفع صاحب الغبطة مع جميع المؤمنين الصلاة والدعاء. صلاة شكر على تحرير ارض خضبتها دماء الشهداء، ودعاء ليحفظ الله الجنوب ولبنان، ويحصن وحدة مستعادة للعيش الكريم، كانت ولا تزال هدفا للدسائس والمؤامرات. ان نجاح هذه الوحدة يشكل بلا ادنى شك تحديا صارخا لدولة تيوقراطية لن يقوم لها قائم ما دامت تعتمد على عقيدة تفوق “الشعب المختار” وتنظر بازدراء الى سائر الامم، حتى لو كان اسمها اميركا. وفي اليوم الثالث من الزيارة، في دير القمر، عاصمة الامراء المعنيين، يترأس غبطته الذبيحة الالهية في كنيسة سيدة التلة في يوم عيدها، يشارك فيها كل لبنان، رئيسا وشعبا ومسؤولين. وفي التلة الاخرى من مدخل الدير، حيث يرقد بسلام، يشارك في الصلاة، “فتى العرب الاغر”، الذي دافع عن فلسطين في لايك سكس وعلى كل منبر حتى الاعياء. وتفتح الزيارة التاريخية صفحة جديدة مضيئة محققة وحدة الجبل اي وحدة كل لبنان. وتختتم صفحة قاتمة، اعطت لبنان امثولة لن ينساها ابدا، ففي التشتت غربة وفراق، وفي الوحدة عيش كريم خير ولقاء. اميل ابي نادر عضو المجلس التنفيذي في الرابطة المارونية