23 شباط 2017
مارتن سكورسيزي أذكى بكثير من أن يصنع فيلما دعائيا. مع ذلك يبدو فيلمه الأخير والجديد “صمت” للمُشاهد في الأجزاء الأولى منه وكأنه فيلم، بحلة تاريخية وروائية وتصويرية جديدة، مصنوع فقط لتكرار تمجيد عذابات ونضالات وتضحيات المبشرين الكاثوليك في أراضٍ غريبة بعيدة هي اليابان في القرن السابع عشر.
لكن المخرج الفذ يأخذنا تدريجيا وبقوة، وبطء لن يفقد إثارته، إلى معضلتين: الأولى مباشِرة هي جدوى ومعنى التضحية والاَلام الجسدية للمؤمنين المسيحيين، مبشرين ومؤمنين، والثانية غير مباشرة تتصل بكل الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) المؤْمنة بإله واحد وهي معضلة الصلة بدين ثقافة أخرى المثلُ الأعلى فيه هو الترقي نحو الانسان الأعلى لا الإله الأعلى. هذا ما سيحصل في الحوار الاستثنائي في نهايات الفيلم بين الراهب اليسوعي الذي ارتد تحت التعذيب إلى البوذية وبين الراهب الذي جاء باحثا عنه في اليابان… حيث تدور أحداث الفيلم المبني على رواية صادرة عام 1966 للكاتب الياباني شوزاكو إندو بالعنوان نفسه: صمت.
الفيلم يُظهِر القسوة الرهيبة التي لجأت إليها السلطة اليابانية عندما قرّرتْ استئصالَ المسيحية من اليابان والتي جاءت أساسا، أي المسيحية، عبر تبشير الآباء اليسوعيين البرتغاليين والأسبان منذ القرن السادس عشر في فترة التوسع التجاري الأوروبي خصوصا البرتغال وأسبانيا في أقاصي العالم الشرقي.
سيخاطب الأب المرتد تلميذَه السابق الذي كان يبحث عنه: المسيحية تقول أن المسيح قام بعد ثلاثة أيام من الموت، هنا البوذيون يقولون أن القيامة تحصل كل يوم ويشير بيده إلى الشمس المشرقة في موقف تصويري هائل الجمالية.
في ذروة هذا الحوار بين الأبوين اليسوعيّين يقول الأب المرتد ( المرتد ربما ظاهريا) لتلميذه حين يجمعهما سجّانُهما الياباني في معبد بوذي أن خلاص المعذَبين المساجين المسيحيين اليابانيين يستحق منه الارتداد عن المسيحية كثمن تطلبه السلطة اليابانية إذا كان الخلاص يعني وقف آلامهم الجسدية وإنقاذ حيواتهم، فيرفض الآخر ذلك ليقول له الأب المرتد عندها أنتَ تتألم ليس من أجلهم وإنما من أجل نفسك، أي من أجل ما تظنه صواباً. وإلا كنتَ أعلنت تخليك عن المسيحية لأن المهم هو خلاص الإنسان والتضحية هي لأجل البشر. بالتالي إذا ارتد فهو ينقذ هؤلاء المعذبين. ويكون رغم ارتداده مسيحيا أصيلا. ( يصعد صوت على الشاشة لعله صوت المسيح يطلب منه الارتداد). تلك أيضا فعلا كانت لحظة ذروة.
إذا أخذنا سابقة سكورسيزي الشهيرة وهي فيلمه “إغواءالمسيح الأخير” الذي اعتبرته الكنيسة الكاثوليكية هرطقة، فالرجل في الفيلمَيْن السابق والحالي يعبِّر عن مسيحيته لا عبر بعض المعتقد الديني وإنما عبر إعلاء شأن الآلام الجسدية التي هي جوهر المسيحية وهو، أي سكورسيزي، ذو التربية الكاثوليكية في صباه. وكما فعل في فيلمه – الصدمة “إغواء المسيح…” يحاول سكورسيزي أن يقدِّم مسيحية الآلام الجسدية على مسيحية الدوغما المعتقدية في الفيلم الجديد وعلى مسيحية الرواية الرسمية للكنيسة في الفيلم القديم. يمكننا أن نعتبر أن الفيلم يطرح، إضافة إلى هذا المستوى الأول في نقاش معضلة جدوى التضحيات الجسدية من حيث الحوار مع المعتقد المسيحي ومن ثم ثقافة أديان الإله الواحد مقابل ثقافة الدين البوذي… يطرح مستويين – معضلتين أخريَين ثالثة ورابعة:
الثالثة مدى صلاحية التبشير بعقيدة دينية في بيئة ليست “مؤاتية” لها. لذلك السؤال هو هل بقيت المسيحية تاريخيا ضعيفة وأقلية محدودة جدا في اليابان بسبب غربتها عن بيئة البلد أم بسبب القمع العنيف الذي مارسَتْهُ السلطات السياسية مدعوماً من الكهنة البوذيين؟ هذا سؤال مطروح على مناطق أخرى في العالم مع أن الفيليبين القريبة تحولت بكاملها إلى المسيحية؟ أسئلة كبيرة تأخذنا خارج نطاق الفيلم المباشر لو طرحناها حول المسيحية الإفريقية والإسلام الإفريقي؟
المعضلة الرابعة الأخيرة التي يثيرها الفيلم من وجهة نظري هي العنف الذي يمارسه “منطق الدولة”. فمع أن اليابان كسلطة كانت على علاقة انفتاح تجاري مع البرتغال وأسبانيا، هذا لم يمنعها من أخذ قرار القمع الشديد للجزء التبشيري لا التجاري من هذه العلاقة بعد فترة تساهل أدت إلى انتشار للمسيحية في بعض أنحائها الأمر الذي اعتبرته الدولة اليابانية لاحقاً خطرا وقررت استئصاله. أليس من تشابهٍ هنا مع تجارب تاريخية أخرى صار الصراع الديني جزءا من منطق الدولة كما حصل في الأندلس الإسلامية ضد الرهبان الكاثوليك وكما سيحصل في أسبانيا بعد قرون ضد المسلمين، أو كما سيحصل في أوائل القرن العشرين في الصراع التركي الأرمني، وهي كلها تجارب استئصالية كانت تقودها دول ومنطق دول؟ والأمثلة السياسية هذه بارزة لكن ليست حصرية. هذا دون أن ننسى ربما في الخلفية غير الظاهرة للفيلم رغبة المخرج، في زمن التطرف الوحشي الديني الذي تمثله داعش، في تسليط أو إعادة تسليط الضوء على العنف الديني، رغم أن مشروعه لإنتاج هذا الفيلم قديم كما يقول بعض النقاد الأميركيين.
عندما سيظهر الصليب الذي خبأه الراهب المرتد داخل ثيابه خلال وضع جثمانه في النعش لإحراقه، ألا يحق لنا السؤال هل عادت مسيحية الأب إيمانيا أم هي “مسيحية” الحنين إلى وطنه البعيد أم كلاهما معا حيث لا يمكن تفريق نوع الإيمان عن بيئته الأصلية. وهذا يعيدنا إلى المربع الإشكالي الأول للفيلم.
أود أن أختم هذه العجالة هنا بأن الفيلم لو لم يكن تحفةً فنيةً في التصوير والأداء والموسيقى واللباس، فإن كل ما سبق لم يكن ليُطرح بقوة. القوة الإبداعية هي التي تفرض قوة النقاش.
jihad.elzein@annahar.com.lb
Twitter: @ j_elzein