الرئيسية / مقالات / أربعينية الحسين في كربلاء: مشروع سياسي ضخم يقابل “الأممية الشيعية المقاتلة”

أربعينية الحسين في كربلاء: مشروع سياسي ضخم يقابل “الأممية الشيعية المقاتلة”

زوار شيعة في مدينة النجف الاربعاء تمهيداً لإحياء أربعينية الحسين. (أ ف ب)

أيام قليلة ويشرع العراق أبوابه أمام ما يعرف بزوار اربعين الامام الحسين، اذ يصل الى المراقد والعتبات المقدسة وخصوصا في حاضرتي النجف وكربلاء ما يتعدى عادة سبعة ملايين زائر شيعي يفدون من أربع رياح الارض ليحيوا معاً مراسم أربعين استشهاد الامام الحسين بن علي وأهل بيته وانصاره الخلص الذين سقطوا معه في أقل من يوم في معركة الطف المعروفة بواقعة كربلاء قبل أكثر من 1380 عاماً.

الهمّ الأكبر للمشرفين على هذه المراسم وضمان نجاحها، ان يخرج الراصدون باستنتاج فحواه انه أكبر حج ديني في العالم قاطبة وعند الاديان كافة، وتالياً يثبت الشيعة في العالم انهم نجحوا في ترجمة عملية لنظرية منسوبة الى الفيلسوف الفرنسي الذي أمضى سحابة عمره في دراسة المذهب الجعفري وعقيدة العرفان فيه هنري كوربان، والتي تنص على ان الشيعة وحدهم في هذه المسكونة الذين أبقوا خيط علاقة بين الارض والسماء وانهم يرفضون إلا ان يثبتوا انهم أحياء فاعلون متحركون لأن ثمة قضية تربطهم بالماضي السحيق هي ثورة الامام الحسين ورمزيتها الحارة، ولان ثمة قضية تشدهم الى المستقبل هي قضية الامام المهدي الذي يتعاملون معه على أساس انه حي يرزق ينتظر لحظة الفرج والخروج ليملأوا العالم عدلاً بعدما ملأها الطواغيت ظلماً وجوراً.

تلك المقولة الحافلة بالرمزية التي أطلقها هذا الفيلسوف والعالم الغربي قبل نحو نصف قرن يوشك كل شيعة العالم ان يغيبوها ويحفظوها عن ظهر قلب تماماً كما يحفظون البسملة والحمدلة، ذلك انها تؤكد لهم تميزهم عن سائر المذاهب والمدارس الاسلامية وتثبت لهم انهم يحملون بين اضلعهم قضية كبرى وهي التمهيد الايجابي بدل الانتظار السلبي لظهور القائم المنتظر “بقية الله” ليؤدي المهمة الموعودة عبر حراك مستدام تتحول معه كل الارضين الى كربلاء وكل الازمان الى عاشوراء.

وعلى رغم ان احياء أربعينية الامام الحسين بهذه الحشود وعلى هذا النحو الاحتفالي الضخم، أمر مختلف عليه في داخل حراس العقيدة بين من يعتبره أصلاً في صلب العقيدة والمذهب ومن يعتبره حدثاً دخيلاً، الا ان الشيعة في العالم وعلى اختلاف اتجاهاتهم باتوا يساكنون هذه الظاهرة ويعلون شأنها وينتظرون حلولها بفارغ الصبر كي يظهروا لمن يعنيهم الامر في هذا العالم وخصوصاً خصومهم في العقيدة انهم باتوا قادرين على تنظيم حج مواز للحج السنوي الى مكة ولكن باعداد تتضاعف ثلاث مرات وأكثر عن حج عرفة وان تكن المشاركة في هذا الحج لا تغني اطلاقاً عن المشاركة في الحج الآخر. وهو مادة يتكىء عليها من لا يشاطرونهم اعتقادهم ان مذهبهم في الاساس مذهب سياسي خاص ليس إلّا.

والاهم انه عبر هذه المراسم المميزة والشاقة، يظهر العراقيون أصحاب الارض أنهم قادرون على رعاية هذه الحشود المليونية وتكريس الجهود والتفرغ لخدمة ضيوف الامام الحسين وزواره على أحسن ما تكون الضيافة وخدمة الوافدين، والواضح انهم بذا يثبتون تعلقهم بإمامهم وبقضيته العاصية على تكرار الايام وكر الدهور، كما يثبتون للعالم انهم العرب الاقحاح أهل الكرم والنخوة والمروءة مما يسبغ عليهم خصال العرب والمسلمين الحميدة. في حين ان هناك من يزعم انهم انما بكل هذه الحفاوة التي يبدونها انما يكفرون عن شعور خفي بالذنب لانهم محاصرون تاريخياً بشبهة خذلان ابن بنت نبيهم والقصور عن نصرته يوم احتاج الى هذه النصرة وهو محاصر من كل الجهات بجيش يزيد الاموي الذي منع عنه وعن أهل بيته ومرافقيه حتى شربة الماء من نهر الفرات القريب.

من وحي كل هذه الاعتبارات أعيد الاعتبار الى احتفالات أربعينية الامام الحسين منذ اعوام عدة بعدما حرمها أكثر من ثلاثة عقود من الزمن الرئيس الراحل صدام حسين ونظامه. وزادوا على المشهد الدراماتيكي فكرة المسير المليوني وهم يسمّون “المشاية ” الذين ينطلقون سيرا من النجف الاشرف حيث مقام الامام علي الى كربلاء حيث مرقد جسد الامام الحسين وأخيه غير الشقيق وحامل لواء جيشه، العباس قاطعين أكثر من ثمانين كيلومتراً. وهي مجال ومحطة مهمة لاظهار مدى التعلق بقضية الحسين واهداف ثورته واستطراداً التعلق بـ”الولاية” لأهل البيت، حيث يتجند في هذا المسير الصحراوي آلاف الناس من العراقيين وسواهم لخدمة الزوار والسهر على راحتهم عبر مضايف واستراحات تنتشر على طول هذا الطريق، فضلاً عن مستوصفات ومراكز طبية يشرف عليها أطباء وممرضون ومسعفون من دول العالم أتوا ليبرهنوا انهم جزء لا ينقطع من المشروع الثوري الذي حمله الامام الشيعي الثالث يوم أتى بأهله وصحبه المنتجبين من المدينة المنورة الى أرض الطف ليؤدي المهمة الاصلاحية الكبرى المطلوبة منه وهو يعلم سلفا أنه سيكون شهيد هذا المشروع.

وأكثر من ذلك، فان للمسيرة هذه وظيفة أخرى في المشروع الاعمق والاوسع هي ان هذا الركب السيار “المشاية” ناس من انحاء العالم، واللافت ان الاضواء تسلط منذ فترة على مشاركين من دول عرفت دوماً بأنها تخلو من أي اتباع لمذهب اهل البيت أي من مصر والسودان والمغرب والجزائر وتونس ونيجيريا، وفي هذا ينطوي دحض لمقولة روجها خصوم هذا المذهب وهي ان الشيعة أقلية الاقلية بين المسلمين، وفيه أيضاً ان المذهب في طور الانتشار السريع وتأكيد أيضاً ان هؤلاء الشيعة لم يعودوا مذ قامت الثورة الاسلامية في ايران ومذ سقط نظام صدام في العراق ومذ نجح “حزب الله” في لبنان في مقارعة العدو الاسرائيلي، لم يعودوا هامدين خاملين بل انهم صار لهم قضيتهم ومشروعهم المستقبلي وصاروا مصممين على المضي فيها الى النهاية، وانهم استطراداً صاروا حراكا يملأون العالم ضجيجاً وحضوراً وصولة وجولة.

وأبعد من ذلك شاء الشيعة، دولاً وحكومات وتنظيمات ومجموعات، ان يكون في مقابل “الاممية المقاتلة” والتي تجلى حضورها أكثر ما يكون في الساحة السورية حيث الايراني والعراقي والافغاني والباكستاني الى جانب اللبناني والسوري والخليجي معاً في قوة متحالفة وقادرة على تحويل مجرى الامور واحداث التحولات، حضور شيعي جماهيري يجتمع في أرض كربلاء متجاوزاً كل الاعتبارات ليتوحد تحت راية مشروع الحسين في كل ذكرى عاشوراء. وعليه صارت المناسبة واحياؤها بهذا الشكل الحاشد حدثاً سياسياً يؤكد بالملموس ان للشيعة مشروعهم وقضيتهم وان على العالم واقطابه ان يحسبوا لهم الف حساب.

اضف رد