فريدة حسين
https://www.alquds.co.uk/
29062020
يرى الشاعر أدونيس أن الغيوم التي كانت تحجب أو تموّه التشققات العميقة في صورة العالم، بدأت تنقشع بفعل كورونا، وتُظهر بوضوح ضمور «الظاهرة العربية» وانحلالها، وهذا دليل ـ حسبه- على أن العربي يعيش حجرا صحيا عقليا، وذكّر الذين يتربعون راضين وطائعين في زنازين الحجر الصحي العقلي، أن زوال الحجر على التغيّر والمصير، مشروط بزوال الحجر على الكينونة، وأن الفكر لا يكتسب قيمته الإنسانية إلا إذا كان في نيته منفتحا على إمكان أن يكون مخطئا. كتب أدونيس: ما تكون صورة العالم، غداً؟ الآن، بفعل الكورونا، تنقشع كثيرٌ من الغيوم التي كانت تحجب أو تموّه التشققات العميقة في صورة العالم. وهي تُشير إلى ظواهر كثيرة ومتنوّعة أذكر أكثرها دلالةً، كما أرى، في التحولات الكونية الرّاهنة، وأصوغُها كما يلي:
– ضمور «الظاهرة العربية» وانحلالها
ـ التحوّلات الآسيوية مُضاءةً بالصعود الصيني
ـ التفكك «الجماعي» الأوروبي مُضاءً بـ«الفَردَويَّة» أو «التَّفرديّة» البريطانية
ـ الهوس الأمريكي العسكري – الاقتصادي بأحادية الهيمنة، وتحويل العالم إلى معازل وأسواق ومعسكرات
ـ «البساط» الخفيّ الذي «تجلس» فوقه هذه الظواهر كلّها، تلاؤماً أو تبايناً، ابتعاداً أو اقتراباً، حرباً أو سلاماً، مشاركة أو مقاطعةً، تدريباً أو تأديباً، نكوصاً أو استشرافاً، استكانةً أو تمرّداً. أكتفي هنا بأن ألامس، في اختصار شديد، مسألتين: الأولى تتعلّق بالعرب، والثانية تتعلّق بالغرب الأوروبي الأمريكي.
من ناحية «الظاهرة العربية»، أسأل بلسانها وباسمها:
هل الإنسان، حقاً، «حيوان ناطق» كما عرّفه المعلّم الأول، أرسطو، وكما لا نزال نقبل هذا التّعريف، حتى اليوم؟ نعرف جميعاً أنَّ هذا تعريفٌ لم يعد دقيقاً، ولم يعد وافياً. وتحتم التجربة، تاريخياً ومعرفياً، إعادة النظر فيه. خصوصاً بعد ظاهرتي «الإنسان الآلي» و»الذكاء الاصطناعي».
مِنجلٌ هذا العصر العربيّ، أم سنبلةٌ؟
وبخصوص ضمور الظاهرة العربية استحضر أدونيس، تضخم العقلية البدوية التي كانت سببا في عجز العالم العربي كله عن إقامة أي مجتمع مدني على مدى 14 قرنا، وعجز تباعا لذلك عن إقامة دولة تحترم الإنسان وحقوقه، والعلم وحقوقه، والمعرفة وحقوقها، والتقدم وحقوقه. واعتبر أنه، استنادا إلى هذا، فإن الواقع يؤكد دخول الفكر العربي منذ ذلك الوقت في الحجر الصحي العقلي، الذي لم ينتج سوى الجهل، وأن الأنظمة العربية لم تنتج بدورها سوى البطالة والفقر والتفكك الاجتماعي. يظهر طرح أدونيس منسجما جدا مع ما كتبه قبل ذلك حول الزمن- الأثر والزمن- الحركة قائلا: أفكّر في الزّمن، وأتساءل: هل نعيش نحن العرب في زمنٍ واحدٍ، حقّاً، مع الغرب الأوروبي- الأمريكي، علما، وفكرا وفنّا؟
والجوابُ، كما يبدو لي، هو نعم ـ على المستوى الأفُقيّ – العَوْلميّ. لكن، إذا أردنا أن يكون السؤال أكثر تعقيدا، لكي يكون الجواب أكثر اتساعا وعمقا، فمن الأفضل أن نضيف إليه ضرورة التمّييز بين الزمن الأفقي، السَّرْدي أو الوصفي، والزّمن العمودي الخلّاق. الأول أسميه بالزمن- الأثر، والثاني أسمّيه بالزمن- الحركة أو التغيّر. هكذا يمكن أن نضيف إلى الجواب الأوّل القول بأننا نحن العرب، لا نزال، على المستوى الزمني العمودي، نعيش في القرن الأوّل، قرن الإسلام الخلافي، بالمعنييْن: الخلافة، والخلاف. أي في الزّمن- الأثر، لا في الزّمن- التغيّر. هناك، على مستوى السّلطة- المؤسَّسة، عناصر كثيرة متنوّعة، تجعل السّلطة- المؤسَّسة في العالم الإسلامي- العربي الرّاهن، مجرّد تنويعٍ شكلي على السلطة المؤسسة في القرن الإسلامي- العربي الأول. جوهرياً، لا يزال الزمن- الأثر زمننا المتواصل. وما أبعدنا، إذن، عن العيش مع الغرب الأوروبي- الأمريكيّ في زمنٍ عموديّ واحد: زمن الإبداع وزمن التغيّر، جذريا وعلى نحو شامل، كما هو الشأن في هذا الغرب. الزمن الحركة؟ ليس للفرد العربي زمن، لأنه يحيا بلا حرية، يحيا مقيّدا. المقيّد لا يتحرّك إلّا بأمر أو نَهْيٍ. العرب اليوم يتدهورون جماعة جماعة، فردا فردا، عملا عملا، فكرة فكرة، لحظة لحظة ـ في الهاوية الضخمة التي تُسمّى الزمن- الأثر/ الزمن- الطَّلل. كلّ ما يأخذه «الشرق الإسلاميّ العربيّ» من الغرب الأمريكي- الأوروبي ليس إلّا «أثراً»، ليست له فيه أي علاقة إبداعية حتى حين يموّله، ليس إلّا «طللاً» مُسبّقاً.
مخطوطات «هيّ بن بيّ»، «هكذا يتحتّم عليّ أن أمشيَ إلى الوراء»
نشر أدونيس مخطوطات «هيّ بن بيّ» ضمن أربع أوراق على الموقع الإلكتروني «أثير عمان»، وهي مجموعة من تساؤلات وانتقادات تمحورت حول الموروث والثقافة واللغة والذاكرة العربية، التي تهيمن على الإنسان العربي، وتعرقل تطلعه وتقدّمه إلى الأمام، بل جعلته أسير الماضي باعتباره «الموجود الوحيد المفيد». وقد نشر الورقة الأولى في 25 سبتمبر/أيلول 2019، وأشار فيها إلى أنه عندما تهيمن ذاكرة الإنسان على فكره، يفقد قدرته على التأمل والبحث. يفقد كذلك كينونته الفعّالة الطامحة. وتساءل: «من يقول لي، إذن، كيف أقدر أن أفسّر الثقافة التي ينحدر منها رأسي، وتنحدر لغتي، تلك الثقافة التي تؤكد لي أن الغُراب، مثلاً، وإن كان له جناحان، ليس في الواقع والممارسة إلّا تيساً أبيض؟». وكتب الشاعر المثير للجدل، في الورقة الثانية يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2019، «أن تَعيشَ هو أن تُميتَ الآخرين»: هذه «حكمة» عمليّة معاصرة، شبه سائدة، وتكاد أن تكون شعاراً أمريكيّاً. لكن هناك حكمة قديمة للفيلسوف الرواقيّ سينيكا، تلميذ زينون الذي عاش قرب بيروت، في قبرص، تنقضها تماماً وجذريّاً، تقول: «أن تعيش هو أن تكون مفيداً للآخرين». وهناك حكمة ثالثة تسخر من الحكمتين السابقتين، قائلةً: كَلّا، لا تقدّم هاتان الحكمتان أيّ حلٍّ لأيّ مشكلةٍ يواجهها الإنسان. الحلّ الأوحد لجميع المشكلات هو الإيمان بأن المرأة خلقت من أجل الرّجل ـ خصوصاً أنّها خُلقت من ضلعه. يقول الفيلسوف الفرنسي برغسون: «المسألة هي، تحديداً، أن نعرف ما إذا كان الماضي لم يعد موجوداً، أو إذا كانَ لم يعد مفيداً». وسؤالي لهذا الفيلسوف الآن هو: ماذا نقول لبشرٍ يعتقدون على نَحْوٍ يقينيّ ومُطلَق أنّ «الماضي هو الموجود الوحيد المُفيد»؟ وهو سؤالٌ يولّد أسئلةً أخرى أختار منها الأسئلة التالية: أ- ماذا نقول لإنسانٍ يخضع عقلُه بشكل كاملٍ لطغيانِ ذاكرته، حَتّى ليبدو وكأنّه ذائبٌ فيها؟ ب- ماذا نقول للغيوم التي شَكَت حالها إلى الأرض، قائلة: « لم أعد أطيق هذا الفضاء: لم أعد أقدر أن أمشي فيه إلى الأمام، أو اليسار، أو اليمين. هكذا يتحتّم عَليّ أن أمشيَ إلى الوراء». ج – ماذا نقول لمن يسألنا: «كيف يحيا شعبٌ يُخلق كلّ فردٍ فيه إنساناً كاملاً «وهو في الرَّحِم»؟ ويقول الشاعر المتمرد على الموروث في الورقة الثالثة التي نشرت في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2019: «نعم، لا يعرف الفكر في اللّغة العربيّة أن يؤمن أو يكفرَ، إلّا إذا لبس قناعاً.
تشير تساؤلات أدونيس إلى غياب العقل العربي عن تحولات العالم، فهو خارج صيرورة الحركة والتغيّر، لأنه مجمّد في ثقافة تغيّب طاقة السؤال وتحل محله اليقين الدوغماتي، وتحجب التاريخ والواقع.
متى ستمزّق هذا القناعَ، أيّها الشعر؟ هل صحيحٌ، أيها الشعر، أنك ابتكرتَ لقاحاً ابتكر بدوره شجرةً تجمع بين خصائصِ التفاح وخصائص اللُّفّاح؟ وقيل إنّكَ أغريت العُشّاق بأن يربطَ كلٌّ منهم قلبه بغصنٍ في هذه الشجرة، وأن يكون الخيطُ واهناً، لكي يقدر أيّ طائرٍ عابرٍ أن يُنَقِّرَ، بدونَ حذَرٍ، وبدونَ أن يخافَ من أيّ شيء. أخيراً، قَبِلَت تُفّاحة حوّاء أن تتغطّى بالغيم، فيما كانت تعاتبُ الشمس. والمفاجأة هنا هي أنّها رفضت أن تُسمّي ذلك حجاباً. ماذا بعد الوصول إلى الحقيقةِ، على افتراض حصوله؟ أهنالك وراءها ما يمكن البحث عنه، أو تُمكن تسميته؟ كلّا. لا شَيء هنالك إلا السؤال.
وواصل الناقد اللاذع للثقافة العربية، التي تقوم على المرجعيات المعصومة، وكتب في الورقة الرّابعة التي نقلها الموقع يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2019: «لم تعد الكلمة العربية قادرةً على السَّفَر إلّا داخلَ قَفَصٍ. لم يعد هذا القفَصُ نفسهُ قادراً على أَنْ يتنقَّل أو يتحرّكَ إلّا في قفصٍ آخر. منذ المتنبّي، لم يعرف حصانُ أيِّ شاعرٍ عربيّ، كيف يُحَمْحِمُ في ميدان السّياسة.
الحاجة لـ«مغامرين كبار» لرسم تحوّلات مضاءة بالصعود
تشير تساؤلات أدونيس إلى غياب العقل العربي عن تحولات العالم، فهو خارج صيرورة الحركة والتغيّر، لأنه مجمّد في ثقافة تغيّب طاقة السؤال وتحل محله اليقين الدوغماتي، وتحجب التاريخ والواقع. ويبحث أدونيس المتأثر بالرمزية الفرنسية والمثالية الألمانية عن الإنسان المتفوق والإنسان العبقري، الذي يستطيع الانبعاث من ركام الانحطاط العربي، ليعيد ابتكار التراث الذي هو صناعة الإنسان. ونلاحظ أن أدونيس يراهن على دور البطل الفرد في تغيير الواقع والانشقاق عليه. فالرهان – حسب- صاحب «الثابت والمتحول» هم «المغامرون الكبار» الذين يصرون على الانعطاف بالفكر والعالم نحو مآلات أفضل. والحقيقة الوحيدة عند أدونيس هي التحول المستمر والحركة التي لا تهدأ، وهو المعروف بالانقلاب على ما يختزنه داخله من عصف روحي ومساحات للتجدد والمغامرة، فروحه العاتية أوصلته ليعتبر أن اسمه الحقيقي هو «لغم الحضارة»، وأن لا قيمة للإنسان إذا لم يحوله المسمى إلى طاقة سحرية فاعلة ورمز للصيرورة والتحوّل.
ويرفض أدونيس ربط الحداثة بالتأخر الزمني، ولم يرها رديفا للمعاصرة، بل ربطها بالمغايرة والتجديد، فالحداثة ـ حسبه- لا تربط بالشكل وحده، بل بالرؤية والمقاربة والمشروع، وآن الأوان للمبدع العربي أن يتجاوز الغياب المزدوج الذي يعيشه عن ذاته وعن الآخر، أو حسب تعبير جون بول سارتر «بين جحيمين الأنا والآخر». وفي حال عدم التمكن من التحرر من الغياب والمنفى اللذين يحكمان سيطرتهما على العقل المبدع، فإن فجوة العرب- الغرب ستتعمق بزيادة وقع انحطاط الأول وازدهار تقدّم الثاني، وحينها يصلح ما قاله أدونيس: «حَقّاً، حَقّاً، لا تأبه أنثى النّحل لما يقوله ذكَرُ النّمل: نذرت أذنيْها كلّياً لما تهمس به خلاياها».
٭ كاتبة جزائريةك