26032018
اكتشفت، خلال زيارتي الجناح الروسي في معرض باريس الدولي للكتاب في دورته لهذه السنة، كم أننا نجهل نحن العرب، الأدب الروسي الجديد بمشهده الراهن وأسمائه اللامعة وموجاته أو مدارسه الحديثة. الفقر المدقع في الترجمة الذي تعانيه المكتبة الروسية بالعربية يبدو فاضحاً: كم أننا تأخرنا في اكتشاف هذا الأدب الراهن الذي تسمه صفتان هما: التنوع والحيوية. ولعل الأربعين كاتباً الذين تمت دعوتهم إلى معرض باريس يمثلون صورة مشرقة وبانورامية لهذا الأدب الذي يعيش أصلاً حالاً من العزلة العالمية كما ورد في الندوات التي تحدث فيها هؤلاء الكتّاب. وعلى رغم تمتع أهل الأدب بحرية مفترضة في ظل حكم الإمبراطور الجديد بوتين الذي لم يتمكن من لجم الأدباء المعارضين مثلما فعل في عالم الصحافة والتلفزيون كما عبر أحد المدعوين، فالأصوات الطليعية والـ «مابعد حداثية» لم تنجح في تحقيق رواج عالمي يماثل رواج أدب ماقبل الثورة والثورة. هذا ما يعانيه حقاً المشهد الأدبي الراهن، وهو رحب رحابة البلاد الروسية ومتعدد وشديد الثراء. هؤلاء الكتاب الأربعون، الذين طغى عليهم الروائيون وندر بينهم الشعراء والقاصون، يمثلون حقيقة المشهد الروائي القائم. الرواية الروسية تستعيد مقداراً من مجدها الأول الذي تجلى في أعمال الرواد الكبار من مثل دوستويفسكي وتولستوي غوغول وبولغاكوف وسواهم، لكنها طبعاً لم تفرض ريادتها في عصر لم يعد يتسع لما يسمى حركة ريادية جماعية. وإلى هؤلاء يضاف سولجنتسين وباسترناك وسواهما من الروائيين الذين خرجوا على أيديولوجيا الثورة واضطهدوا وتم سجنهم أو نفيهم.
قد لا يؤخذ على المكتبة العربية تقصيرها في شأن الأدب الروسي الراهن ما دامت قصّرت أصلاً حيال الأدب الروسي الكلاسيكي أو أدب ما قبل الثورة، ولم توله كبير اهتمام. الفضيحة الكبرى أننا ما زلنا مثلاً حتى الآن نقرأ دوستويفسكي في ترجمة شهيرة تمت عن الفرنسية وهي التي أنجزها ببراعة المترجم السوري سامي الدروبي. لكنها تظل، مهما بدت إبداعية، ترجمة غير وفية وغير حقيقية لأنها لم تتم عن اللغة الأم. وهذا ما ينطبق على أعمال تولستوي وبولغاكوف وسواهما من الكبار. لا أحد يعلم ما سر هذا التقاعس في الترجمة عن الروسية مباشرة، مع أن دولاً عربية عدة كانت إبان الحكم الشيوعي على علاقة جيدة، وجيدة جداً أحياناً، بروسيا وأيديولوجيتها وثقافتها. ولا تحصى أعداد الجامعيين الذين درسوا في روسيا البولشفية والمفكرين والكتاب الذين زاروها وأقاموا فيها. حتى الشعر الروسي الذي لقي بعضاً من اهتمام المترجمين ظل مقصوراً على حقبة ما قبل الثورة والثورة وصولاً إلى الستينات. ومعظم الترجمات ظلت وقفاً على المختارات ولم تترجم دواوين كاملة. مترجمون مثل حسب الشيخ جعفر وإبراهيم إستنبولي وإبراهيم الجرادي الذين يتقنون الروسية مبدئياً، لم يتخطوا شعر الستينات إلا في ما ندر. هكذا ترجمت مختارات لبوشكين ومايكوفسكي وبلوك وليرمنتوف وحمزاتوف وأخماتوفا وسواهم… أما الترجمات التي تمت عن لغات وسيطة فلا يمكن التعويل عليها مهما نجحت في أحيان. الآن يشهد المشهد الشعري الروسي ازدهاراً كبيراً نجهله كل الجهل، ومن يتصفح الدواوين والأنطولوجيات التي عرضت في الجناح الروسي في ترجماتها الفرنسية يكتشف كم أن غيابها عن العربية فادح مثلها مثل الروايات التي تحمل ملامح أدب روسي جديد ومختلف عما عرفناه عربياً.
كان معرض باريس فرصة مهمة للتعرف إلى بعض الكتّاب والكاتبات الروس والاستماع اليهم يتحدثون عن تجاربهم ويقدمون أعمالهم. فمنذ سقوط جدار الشيوعية كما قال أحد المقدمين برزت أجيال جديدة تحمل همومها وأسئلتها وأدبها، وشهدت الرواية شبه ثورة على أعمال الرواد واللاحقين. لكن بعض الروائيين ما زالوا يصرون على الحفر في التاريخ الروسي بحقباته المتعاقبة، منذ العهد القيصري حتى الثورة. هذا الذاكرة لم تنضب بل هي زاخرة بما لم يكشف عنه. حتى حقبة بوتين نفسها، المعقدة والمركبة، تناولها روائيون ومنهم رومان سانتشاين في روايته التي نالت رواجاً «ماذا تريدون؟». أما الجغرافيا الروائية الراهنة فتتوزع بين النزعة التاريخية والواقعية الجديدة والسرد التجريبي والثريلر أو السرد البوليسي. في إحدى الندوات قالت الروائية ألينا تشيجوفا في ما يشبه التحية الى دوستويفسكي: «جميعنا راسكلنيكوف، يجذبنا بقوة موقع الجريمة: ماضي بلادنا».